عمر الشافعي

أولاً – مقدمة

في جريمة مروعة، ذبح شاب لاجئ روسي شيشاني الأصل مدرس التاريخ في مدرسة ثانوية في ضاحية باريسية، صامويل باتي، 47 عامًا، في وضح النهار وعلى قارعة الطريق، مساء الجمعة 16 أكتوبر الماضي، بينما كان الأخير في طريق عودته لمنزله بعد انتهاء عمله، “عقابًا” له على استخدام رسوم كارتونية تسخر من نبي الإسلام في قاعة درس ضمن مادة دراسية عن حرية التعبير.

ليست هذه للأسف أول ولا آخر جريمة بشعة يرتكبها مسلمون متشددون باسم الدفاع عن الإسلام ونبيه ورفضًا للإساءة إليهما. والمفارقة هي أن مثل هذه الجرائم تُشكِّل أكبر إساءة للإسلام ولمكانته في العالم. صحيح أن مرتكبيها أقلية ضئيلة من المسلمين، لكن المأساوي أنها تحظى بتعاطف كبير، أو على الأقل تحفظ في رفضها، من جانب جزء ليس بالصغير من الرأي العام في بلادنا، تعبيرًا عن مستوى جسيم من الهوس الديني وتنكُّر كامل لحرية العقيدة وحرية التعبير، بل لحق الإنسان في الحياة.

لكن هذا الموقف “الغيور على الإسلام” ليس هو رد الفعل المَرَضي الوحيد على ذبح باتي. ففي خضم مشاعر التعاطف النبيل مع الضحية، ولا سيما خلال تأبينه الجماهيري المهيب في فرنسا، بدا واضحًا أن الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون يستغل الجريمة النكراء لكي يجعل مسلمي فرنسا، بل الإسلام عمومًا، كبش فداء لمشاكل فرنسا، وليس أقلها فيروس كوفيد-19 الذي يعيث فيها فسادًا بشكل أعنف بكثير منه في أغلب أنحاء العالم.

والحال أن حملة ماكرون ضد الخطر الإسلامي سبقت مأساة اغتيال باتي. ففي 2 أكتوبر، ألقى الرئيس الفرنسي خطبة في إحدى ضواحي باريس. كانت استطلاعات الرأي آنذاك تشير إلى تدني شعبية ماكرون، ليس فقط بسبب سجل حكومته السيء في التعامل مع الجائحة، لكن أيضًا في ضوء الغضب الاجتماعي المتنامي إزاء تفاقم اللامساواة في المجتمع الفرنسي. وانعكس هذا الغضب خلال السنتين الأخيرتين في حركة السترات الصفراء اعتبارًا من أواخر عام 2018 ثم حركة الاحتجاج ضد مشروع ماكرون لـ”إصلاح” نظام المعاشات التقاعدية، إلى أن قلصت الجائحة الحشود الاجتجاجية في الشارع بينما عمقت الشعور، عبر أثرها المفرط على المحرومين، بفداحة الظلم الاجتماعي.

لم يتناول ماكرون الجائحة في خطبته، بل خصصها لمشكلة رآها أخطر، وهي “الانفصالية الإسلامية”، في مسعى لاستعادة بعض الشعبية باللعب على غريزة الخوف ودغدغة المشاعر القومية. وبدا واضحًا أن الرجل عينه على انتخابات الرئاسة المزمعة في 2022 وأنه يزايد على الخطاب اليميني المتطرف لمنافسته الأبرز غالبًا في تلك الانتخابات، زعيمة “التجمع القومي” (الاسم الجديد لـ”الجبهة القومية”، أبرز وأكبر أحزاب أقصى اليمين في فرنسا) مارين لوبين. و”الانفصالية” مصطلح مفعم بالإيحاءات السلبية في فرنسا، إيحاءات تسري تحديدًا على مواطنيها المنتسبين إلى الإسلام، بالممارسة الدينية أو بالثقافة أو الأصول، إلى حد أن مجرد ذكر الكلمة، حتى دون أن تقترن بصفة الإسلامية، يوحي إلى الذهن بالمعنى المقصود، وهو أن مسلمي فرنسا الذين يقارب عددهم الستة ملايين يعزلون أنفسهم عمدًا عن عموم المجتمع. وإطلاق هذه الصفة عليهم ينطوي على اتهامهم “برفض ما يُرفَض لهم” (refuser de ce qui leur est refusé) على حد التعبير البليغ للمفكر والمناضل الماركسي الراحل دانيال بن سعيد، ذي الأصول اليهودية والعربية (الجزائرية) وأحد أهم القيادات الشابة آنذاك لثورة مايو 1968 العظيمة. ذلك أن هؤلاء الملايين الستة يغلب عليهم الأصل المغاربي، ويشكلون جزءًا من ميراث الاستعمار الفرنسي البغيض، لا سيما في الجزائر، ويعيش قطاع كبير منهم في بؤس وفقر في ضواحي المدن الكبرى شبه الحضرية نتيجة لعقود من الإهمال والتمييز في سياق التطور المركب واللامتكافئ للرأسمالية الفرنسية. وتقع تهمة “الانفصالية” في صميم تصوير واقع المسلمين الفرنسيين بالمقلوب، واقفًا على رأسه.

و”الانفصالية”، على غرار الإله الروماني يانوس، لها وجهان، أحدهما “الخطر الداخلي”، أي انكفاء مسلمي فرنسا المفترض على ذاتهم؛ والآخر “الخطر الخارجي”، أي تنامي الإسلام المتشدد وتأهبه للانقضاض على فرنسا لا بغرض إلحاق الأذى فحسب، بل الاستيلاء على السلطة وسحق أسلوب الحياة الفرنسي! وهنا مغزى حديث الرئيس الفرنسي عن أن الإسلام “ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم”. وبهذا البعد الخارجي يتضح الطابع الانزلاقي لمفهوم “الانفصالية”. فإبراز الخطر الداخلي يجعل المسلم مرادفًا للانفصالي، ويأتي الخطر الخارجي ليوسع نطاق الترادفية بحيث تصبح المعادلة مسلم = انفصالي = إسلامي = إرهابي، وهي ترادفية ضمنية يرسخها خطاب مناهضة الانفصالية إلى حد يصبح معه سعي ماكرون لاحقًا إلى تلطيف الجو بإعلانه أن المستهدف ليس الإسلام وإنما تشويهه المتشدد محض لغة دبلوماسية “مهذبة” يحاول صاحبها أن يبدو حريصًا على مشاعر المسلمين!

لكن القارئ قد يعترض مشيرًا إلى أن ما نسميه “تصوير واقع المسلمين الفرنسيين بالمقلوب” ليس بعيدًا عن الواقع إلى هذا الحد. ألم يُذبح صامويل باتي بعد أسبوعين فقط من خطبة ماكرون المذكورة؟ الواقع أن كلام ماكرون هنا تسري عليه مقولة “النبوءة المصدقة لذاتها”. فمع إقصاء قطاع من السكان عمدًا على مدى عقود عبر التمييز المنهجي في التوظيف والإسكان وغيرهما، وترسيخ ووصم هويته الإثنية/الدينية باعتباره يمثل “الآخر” المشتبه به والمطلوب منه دوما إثبات أنه مماثل بينما يجري التأكيد ليل نهار على أنه مختلف بحكم موروثه، يميل بعض هؤلاء إلى احتضان “احتضان الوصمة”، وهي حيلة طالما أثبتت نجاعتها، “فينتصرون بفخر للخصوصية المفروضة عليهم ويخوضون مقاومة تناهض الاندماج” (Bensaid 2015: 41).

ورغم الإدانة الواسعة لجريمة ذبخ باتي من جانب المؤسسات الممثلة لمسلمي فرنسا والشخصيات البارزة في صفوفهم، راح ماكرون يكثف حربه ضد “الانفصالية الإسلامية” معلنًا عن إجراءات صارمة لاجتثاثها من المساجد والمراكز والجمعيات الإسلامية ومنابر السوشيال ميديا. وباسم التصدي للخطر الداهم على “قيم الجمهورية”، طالت الإجراءات القمعية “التجمع ضد الإسلاموفوبيا بفرنسا”، أبرز جمعية مناهضة للعنصرية ضد المسلمين في البلد، وبات أي صوت يساري يرتفع ضد إجراءات القمع موصومًا بالـ”يسارية الإسلامية”، وهي مرادف لدى اليمين للخيانة المفترضة من قِبَل اليسار الجذري لقيم الجمهورية الفرنسية من خلال التواطؤ مع “الخطر الإسلامي”. وبلغ هوس ماكرون بتأميم الإسلام الفرنسي باشتراطه التصريح الحكومي للأئمة والمؤسسات والنصوص حدًا دفع معلقًا في جريدة فاينانشال تايمز إلى القول بأن نجاح ماكرون في إحكام سيطرته على تشكيل “الإسلام الصحيح” في فرنسا سيجعل بلده الوريث الحقيقي للإمبراطورية العثمانية وأول خلافة في أوروبا الغربية!

لكن بينما أدان أغلب ممثلي مسلمي فرنسا ذبح باتي إدانة صريحة مع تصديهم للإسلاموفوبيا، فهذا ليس للأسف حال “الغيورين على الإسلام” في بلادنا. وهكذا نجد أنفسنا أمام ردي فعل مَرَضيين على الجريمة. فأوساط الحكم في فرنسا تستغلها لشيطنة مسلمي فرنسا وترسيخ “أخرنتهم” (تصويرهم كـ”آخر” خطر ومختلف جذريًا) واستخدامهم كبش فداء للأزمات، بينما تنتعش عندنا جبهة فضفاضة من “الغيورين على الإسلام”، ممن لديهم مشاعر دينية “حساسة” من نوع غريب، تخدشها رسوم كارتونية تسيء إلى النبي لكن لا يخدشها ذبح إنسان مسالم.

 

ثانيًا – سؤالان وتدقيق مصطلحي

يثير كلٌ من ردي الفعل المشار إليهما أعلاه على جريمة 16 أكتوبر الماضي سؤالاً كبيرًا (يتفرع إلى عدد من الأسئلة) حول الشأن الإسلامي في زمننا، سؤالان يركز في الأغلب على أحدهما دون الآخر المعلقون على هذه الجريمة ومثيلاتها، وذلك على نحو حصري يُعبِّر عن استقطاب حاد متصاعد.

الأول هو سؤال الأزمة. هل يعاني الإسلام كدين، أو المسلمون كأناس مؤمنون بهذا الدين، من أزمة تبحث عن مخرج؟ والثاني هو سؤال الاضطهاد أو ما يشيع تسميته الإسلاموفوبيا. هل يعاني الإسلام كدين، أو المسلمون كأفراد أو كمجموع، في بلدان الغرب المتقدم (وربما في العالم) من تمييز مجحف على أساس الدين أو الإثنية أو الثقافة؟

يثير السؤالان، كما كل حديث عن الإسلام اليوم، الجدل الشديد. والجدل صحي بشرط ألا يتحول إلى حوار طرشان بسبب عدم ضبط المفاهيم والمصطلحات. ويثور الخلاف بالذات حول مصطلح “الإسلاموفوبيا” الذي برز على ساحة النقاش العام في الغرب مع صدور تقرير في 1997 عن مركز بحثي بريطاني معني بقضايا المساواة ومكافحة العنصرية هو “رانيميد ترَست” (Runnymede Trust). وكان هذا المركز قبلها بقليل قد أنشأ داخله لجنة معنية بأحوال المسلمين البريطانيين أصدرت تقريرًا أوليًا ثم أخضعته لعملية تشاورية واسعة أسفرت عن صدور تقرير بعنوان “الإسلاموفوبيا: تحدٍ لنا جميعًا”، ثم صدر قبل عامين تحديث له بمناسبة مرور 20 عامًا على صدوره. ورغم تركيز التقريرين الأصلي والمحدَّث على بريطانيا أساسًا، فإن تناولهما للإسلاموفوبيا مفيد لفهم تجلياتها في الغرب عمومًا. ولم يحظ عمل هذا المركز في العالم العربي بما يستحقه من اهتمام للأسف.

وباختصار، حلَّلت اللجنة المذكورة أعلاه الإسلاموفبيا كنظرة سلبية تنميطية للإسلام ترى فيه دينًا جامدًا مصمتًا لا يعرف التطور والتنوع والحوار، وتترتب عليها ممارسات مجحفة بالمنتسبين لهذا الدين. واللافت أن القاسم المشترك بين عمل هذا المركز وكل تناول جاد للإسلاموفوبيا هو الحرص على إيجاد معايير للتمييز بين النقد المشروع للإسلام من جهة والإسلاموفوبيا كموقف تمييزي من جهة أخرى؛ أي أن نقد الإسلام في حد ذاته ليس هو الإسلاموفوبيا. وهذا الأمر لا يفهمه كثير من “الغيورين على الإسلام”، فتجدهم يوسعون نطاق الإسلاموفوبيا ليشمل أي نقد للإسلام، في تغافل لكون حرية العقيدة، بما فيها حرية الإلحاد ونقد الأديان، في صميم حقوق الإنسان. ولهذا السبب توجد تحفظات كبيرة على مصطلح “الإسلاموفوبيا” ليس فقط بين منكري وجود تمييز ضد المسلمين في الغرب، بل أيضًا بين بعض المتعاطفين مع المسلمين إزاء ما يواجهونه من مظالم. ومن بين أبرز المنتمين إلى هذا الفريق الثاني فريد هاليداي، البحّاثة المرموق الراحل في شؤون الشرق الأوسط، والذي ينبع تحفظه على كلمة “إسلاموفوبيا” من كونها توحي بأن موضوع الخوف أو العداء هو الإسلام كدين. كتب هاليداي قبل نحو 20 عامًا: “الإسلام كدين كان العدو في الماضي: في زمن الحروب الصليبية أو حروب الاستعادة. لكنه ليس العدو الآن.. الهجوم الآن ليس ضد الإسلام كإيمان بل المسلمين كأناس” (Halliday 1999: 898). واقترح هاليداي مصطلحًا أدق للتركيز على الأشخاص لا على الدين، وهو anti-Muslimism (نزعة معاداة المسلمين). واقترح باحثون آخرون مصطلحات بديلة، لكن دعونا نتذكر أن الحدود الفاصلة بين الإسلام والمسلمين نادرًا ما تكون قاطعة لدى مروِّجي الصور النمطية السلبية. والفكرة التي أود إبرازها هنا، وإن جاز أن أضع أجراسًا مجلجلة وأنوارًا ساطعة لشد انتباه القراء إليها لفعلت، هي أن نقد الإسلام في حد ذاته ليس بالإسلاموفوبيا، بل يندرج ضمن حرية العقيدة والتعبير.

يُقصد بالإسلاموفوبيا إذن النظرة السلبية للإسلام التي تراه دينًا جامدًا متعصبًا عدوانيًا يشكل خطرًا على الحضارة الحديثة وقيمها. وتتسم هذه النظرة باللاتاريخية، إذ تضفي على الإسلام جوهرًا ثابتًا لا يطرأ عليه تغيير ذو بال؛ وتترتب على هذه النظرة ممارسات مجحفة بالمسلمين. وعلى هذا الأساس، يُعرِّف مؤرخ الأديان الأمريكي تود جرين الإسلاموفوبيا بأنها “الخوف والعداء تجاه المسلمين والإسلام المتجذران في العنصرية واللذان يسفران عن تمييز وإقصاء وعنف، فرديًا ونسقيًا، يستهدف المسلمين أو من يُعتقد أنهم مسلمون” (Green 2019: 38).

ولعل هذا التعريف للإسلاموفوبيا مدخل مناسب لتناول مختصر للمقصود بالمفهوم الثاني الذي يشغلنا، وهو “أزمة الإسلام”. والمقصود هو الاعتقاد بوجود أسباب تاريخية (تتصل بالتاريخ القديم و/أو الحديث) تجعل الإسلام (وبالأخص تجلياته الراهنة) غير متوائم (علمًا بأن التواؤم قد يكون بالتوافق أو النقد) مع عصرنا الحديث. ولأول وهلة، يبدو طرح السؤالين معًا متناقضًا. فإذا كان الإسلام يعاني مشكلة في التواؤم مع العصر وقيمه وثقافته كما يذهب القائلون بوجود أزمة للإسلام اليوم، ألا يعني ذلك أن الارتياب منه، أو حتى العداء الصريح له، في الغرب اليوم مبرَّر ولا ينطوي على رهاب؟ وفي المقابل، إذا كان هناك عداء عنصري للإسلام والمسلمين في الغرب اليوم، ألا يجعل ذلك الإسلام “مجنيًا عليه” وليس متهمًا بأنه يعاني أزمة في التعاطي مع عصرنا؟ سنحاول بيان أن السؤالين معًا يتسمان بالوجاهة والإلحاح. ويَمكُن المفتاح هنا، وفي فض الاشتباك بين المفهومين، في تاريخية النظرة: التاريخية الغائبة عن التصورات الإسلاموفوبية، والحاضرة لدى المهمومين بوضع الإسلام في عالم اليوم. لكن بينما سيحاول المقال الجواب عن سؤال/أسئلة الإسلاموفوبيا، فإنه سيكتفي بطرح سؤال/أسئلة أزمة الإسلام، الأعقد بما لا يقاس، بغرض فتح باب النقاش بين قراء “مرايا”.

 

ثالثًا – أسئلة الإسلاموفوبيا

تسود الغرب الرأسمالي المتقدم اليوم، بل وتتخطى نطاقه، نظرة بالغة السلبية إلى الإسلام. هذا الأمر تؤكده أحدث وأدق استطلاعات الرأي. ففي الولايات المتحدة، لدى 55% من السكان آراء سلبية عن الإسلام، بينما يحمل 38% من الأمريكيين آراء سلبية عن المسلمين. والأمر أسوأ في أوروبا الجنوبية والشرقية، حيث ترتفع نسبة ذوي الآراء السلبية عن المسلمين إلى نحو ضعف مثيلتها في الولايات المتحدة، فتبلغ 72% في صفوف المجريين و69% بين الطلاينة و65% لدى اليونانيين و50% بين الإسبان (Green 2019: 2). وقبل الحادث المأساوي الذي كان مناسبة كتابة هذا المقال، كان 60% من الفرنسيين يرون الإسلام مناقضًا لقيم الجمهورية الفرنسية (تخيَّل معي كم ارتفعت هذه النسبة الآن)، والغريب أن نسبة أكبر من البريطانيين (72%) ترى الإسلام غير متوافق مع القيم البريطانية، رغم الشائع عن كون النموذج البريطاني في استيعاب المهاجرين و”الآخر” أرحب من نظيره الفرنسي. ومن المرجح، رغم غياب الاستطلاعات، أن صورة الإسلام (وأحوال المسلمين) أسوأ بعد في البلدين الأكبر سكانًا في عالمنا، الصين والهند.

وأيًا كان الرأي بشأن أسباب هذه النظرة ودلالاتها، فإن التحليل المدقق يشير إلى (أ) جدتها النسبية، فهي أساسًا بنت العقود الثلاثة الماضية؛ (ب) تزامُن بروزها وتفاقمها مع صعود قوى أقصى اليمين في الغرب وخارجه؛ (ج) وجود محطات تاريخية بارزة شكَّلت معالمها وأرخت لها على رأس كل عقد من العقود الثلاثة المذكورة، ألا وهي نهاية الحرب الباردة (1989-1991)، ثم هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وأخيرًا الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في 2007-2008 ولا تزال آثارها طاغية الحضور. وسوف نتناول فيما يلي تلك المحطات الثلاث محاولين الإجابة في كل محطة منها عن أحد أسئلة الإسلاموفوبيا: فالمحطة الأولى تتناول السؤال “هل”، وإذ نميل للإجابة عنه بالإيجاب، نحاول لاحقًا الإجابة عن السؤالين “كيف” و”ما” على التوالي، أي الكيفية التي تتجلى بها الإسلاموفوبيا في أبرز مظاهرها، ثم طبيعتها الاجتماعية والسياسية. وسننعطف في ختام المحطة الأولى انعطافة نتناول فيها ما نعتقده منبع الإسلاموفوبيا الرئيسي، وهو النظرة الاستشراقية إلى الشرق الأوسط، في مسعىً للإجابة عن السؤال “من أين”.

 

ألف – من “الرعب الأحمر” إلى “التهديد الأخضر”

طوال عقود الحرب الباردة، لم يكن الإسلام، بل والإسلام السياسي بما في ذلك أشد أشكاله “ظلامية”، موضع نظرة سلبية في الغرب، بل كانت القوة العظمى الأولى في العالم وقائدة المعسكر الغربي تشجعه وتروِّج له. ذلك أنها رأت في الشرق الأوسط، بمحوريته لطرق التجارة والملاحة العالمية ومخزوناته الهائلة والمتنامية من النفط، إحدى أهم حلبات مواجهتها الاستراتيجية مع الاتحاد السوفيتي. وبينما سعى هذا الأخير إلى إقامة تحالفات مع نظم المد القومي العربي الذي بدا آخذًا في التجذر يسارًا، ألقت الولايات المتحدة بثقلها وراء الملكيات المطلقة في المنطقة مثل المملكة العربية السعودية وإيران الشاهنشاهية، وباتت السعودية بالذات أقرب إلى المحمية الأمريكية، واتخذت الولايات المتحدة من الإسلام السياسي سلاحًا أيديولوجيًا في مسعاها لكبح النفوذ السوفيتي.

هكذا أيدت الولايات المتحدة المسعى السعودي لنشر الأفكار الإسلامية على امتداد الشرق الأوسط وخارجه. وامتد هذا التأييد ليشمل مساندة وكالة الاستخبارات المركزية لجهود الإخوان المسلمين لتقويض النظام الناصري في مصر. ولم يؤدِ ما أفرزته الثورة الإيرانية (1979) من نظام إسلامي “ثوري” مناهض للولايات المتحدة إلى حد وصفها على لسان زعيمه الخميني بأنها “الشيطان الأكبر” إلى العدول عن هذه السياسة، وإن كان قد عقَّد من الصورة. فالعام نفسه شهد في نهايته الغزو السوفيتي لأفغانستان، وراحت الولايات المتحدة تناصر “المجاهدين الأفغان” بالسلاح والتدريب والمال على مدى عقد كامل واصفةً إياهم، على لسان رئيسها رونالد ريجان، بأنهم “إخوتنا” و”المعادل الأخلاقي لآباء أمريكا المؤسسين”. وآتي هذا الدعم أكُله حيث انسحب الاتحاد السوفيتي من أفغانستان في 1989 ثم ما لبث أن انهار بعدها بسنتين، بينما أرست مقاومة المجاهدين للاحتلال السوفيتي الأسس التي قام عليها تنظيم القاعدة.

استمرت العلاقة الخاصة الأمريكية السعودية بعد ذلك وإلى اليوم، غير أن تغيرًا ملحوظًا في النظرة السائدة في الولايات المتحدة للإسلام قد طرأ، على استحياء نسبيًا في العقد الأخير من القرن العشرين، ثم على نطاق أوسع بكثير بعد هجمات 11 سبتمبر، إذ بات يُنظر إلى هذا الدين أساسًا من منظور “صدام الحضارات”، وهي فكرة ليست بالجديدة طرحها في ثوبها المعاصر المؤرخ برنارد لويس في مقال بعنوان “جذور الغضب الإسلامي” ظهر في مجلة أطلنتيك في سبتمبر 1990، الشهر التالي للغزو العراقي للكويت، ثم عمَّمها وروَّج لها المفكر الاستراتيجي العتيد لليمين الأمريكي صامويل هنتِنجتون في مقال بعنوان “صدام الحضارات؟” نُشر في مجلة فورين أفيرز في 1993 ثم حوَّلها إلى كتاب بنفس العنوان، مع حذف علامة الاستفهام، صدر بعدها بثلاث سنوات. وجوهر الفكرة هو أن نهاية الحرب الباردة أطلقت مرحلة جديدة في السياسة العالمية. فبينما دار الصراع في الماضي بين الملوك والأباطرة أولاً، ثم بين الدول-الأمم لاحقًا، وأخيرًا بين الأيديولوجيات كالشيوعية والديمقراطية والفاشية، فإن الصراع في العالم الجديد “لن يكون أيديولوجيًا أو اقتصاديًا، بل سيكون الانقسام الكبير بين البشر، والمصدر الغالب للصراع، ثقافيًا” (Huntington 1993, 22). ورأى هنتِنجتون أن العالم ينقسم إلى سبع أو ثماني حضارات كبرى، لكنه أكد أن “التمييز الرئيسي هو بين الغرب باعتباره الحضارة السائدة حتى اليوم، وكل الآخرين الذين لا يوجد بينهم سوى القليل المشترك إن وُجِد” (هنتنجتون 1999: 61). وخص المؤلف الحضارة الإسلامية، من بين “كل الآخرين”، بأنها ستكون المصدر الأكبر للصراع مع الحضارة الغربية، وهو ما أرجعه في التحليل الأخير إلى كون العنف متأصلاً في الإسلام. وجدير بالذكر أن هنتِنجتون تبنَّى تصورًا دينيًا بالأساس عن الحضارة إذ رأى أن “ما يهم الناس ليس الأيديولوجية أو المصالح الاقتصادية، بل الإيمان، والأسرة والدم، والعقيدة، فذلك هو ما يجمع الناس، وما يحاربون من أجله، ويموتون في سبيله”. وبذلك بشَّر هنتنجتون، ومن قبله لويس، حتى قبل 11 سبتمبر، بظهور عدو جديد محتمل للغرب بعد زوال “الرعب الأحمر” يتمثل في “التهديد الأخضر”، عدو “ميزته” أن التلويح به أقدر على إثارة غرائز الخوف ورغبات السحق. فالحق أن أحدًا في الغرب، حتى من عتاة المتحمسين للحرب الباردة، لم يعد، على الأقل منذ أوائل الثمانينات، يأخذ “الرعب الأحمر” مأخذ الجد إذ بات واضحًا آنذاك أن “الكتلة الشرقية” تعاني تدهورًا اقتصاديًا بالغًا، حتى أن الانتصار الغربي في الحرب الباردة لم يستقبله بنشوة كبيرة المتلهفون لسحق العدو. وتمثلت جاذبية أطروحة “صدام الحضارات” تحديدًا في تبشيرها بعدو يتيح الفرصة للقتال الحقيقي، حيث الدم والتضحية والحديد والنار. ومن اليسير أن نتبين في تلك الأطروحة ملامح الإسلاموفوبيا بالمعنى الذي أشار إليه تقرير “رانيميد ترَست”. لكن الاقتناع الواسع بمثل تلك الأطروحة كان عليه الانتظار لبضع سنوات. ومع وقوع هجمات ذلك اليوم المشؤوم من سبتمبر 2001، اكتسبت فكرة “صدام الحضارات” هالة من المصداقية وراحت تترتب عليها ممارسات تمييزية ضد الإسلام والمسلمين على نحو يجعلنا نميل للجواب عن السؤال “هل”، أي السؤال عن وجود الإسلاموفوبيا من عدمه، بالإيجاب، ويدفعنا من ثم إلى طرح أسئلة أخرى بشأن الإسلاموفوبيا بغرض تبيُّن جذورها وتجلياتها وطبيعتها المتطورة.

لكن قبل أن نتناول عواقب 11 سبتمبر، من المفيد أن نشير إلى قاسم مشترك بين ما بدا موقفًا متعاطفًا مع الإسلام في السياسة الخارجية الأمريكية طوال الحرب الباردة، وهو موقف يمكن أن نسميه “الإسلاموفيليا” أو حب الإسلام، وبين النظرة السلبية للإسلام أو الإسلاموفوبيا، لا في الولايات المتحدة فقط بل في الغرب كله وعلى نطاق أوسع منه، بعد انتهاء تلك الحرب، وخصوصًا بعد 11 سبتمبر. وهذا القاسم المشترك يتمثل في نظرة للإسلام، محبِّذة له أو ناقمة عليه، لكنها في الحالتين تجعل منه “الآخر” المختلف بامتياز، وهي نظرة “استشراقية” بالمعنى الذي أعطاه إدوارد سعيد لهذه الكلمة في كتابه الشهير بنفس العنوان، وهو المعنى الذي يلخصه جلبير الأشقر ببراعة على النحو التالي:

«الاستشراق» بهذا المعنى مثالٌ عن التّنميط الثقافيّ الذي يختزل تفسير السّمات التاريخيّة الخاصّة بالبلدان «الشرقيّة» إلى ثقافةٍ أزليّةٍ مزعومة. إنّ «الاستشراق»، بكلام آخر، أحد نماذج الجوهرانيّة التي هي طريقةٌ في النّظر إلى التاريخ من خلال عدسة الثقافة باعتبارها طبيعة: لا الثقافة بوصفها مجموعة أفكار وأعرافٍ تتغيّر عبر الزمن بالتّرافق مع التحوّل الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، بل الثقافة بوصفها جوهرًا ثابتًا يحدّد طرق التطوّر الكليّ (الأشقر 2018).

 

نشأ الاستشراق مع تبلور النظام الجامعي الحديث في الغرب في بدايات القرن التاسع عشر، إذ ارتُئي أن العلوم الاجتماعية حديثة النشأة، وهي التاريخ والاقتصاد وعلم الاجتماع والعلوم السياسية، غير ملائمة لدراسة العالم “غير الحديث”. وأفرز ذلك تخصصين جديدين، الأنثروبولوجيا والاستشراق، حيث اختصت الأنثروبولوجيا بدراسة ما سمي آنذاك “الشعوب البدائية”، التي وُصفت بأنها “بلا تاريخ”، تعيش في مجموعات صغيرة وفقًا لأعراف ولغة مشتركة، لكنها تفتقر إلى نظم الكتابة وإلى الأديان التي تتخطى نطاق المجموعة. أما الاستشراق، فقد عُني بدراسة مناطق واسعة خارج أوروبا وملحقاتها نشأت بها في الماضي حضارات كبرى عفا عليها الزمن، مثل الصين والهند وفارس والعالم العربي. وخلافًا للشعوب البدائية، امتلكت تلك المناطق لغة سائدة مستخدمة على نطاق واسع، ونظام لكتابة تلك اللغة، وديانة “عالمية” مهيمنة غير المسيحية. كيف يمكن دراسة تلك “الحضارات العليا” سابقاً؟ بدت الإجابة بديهية: حيث إن أصحاب تلك الحضارات مختلفون ثقافيًا عن الأوروبيين، وحيث إنهم يملكون نصوصًا مكتوبة بلغات مختلفة عن اللغات الأوروبية وإن دياناتهم مختلفة عن المسيحية، فالمطلوب هو قيام الباحثين المعنيين بتزويد أنفسهم بالمهارات، وأولها المهارات اللغوية، اللازمة لفهم تلك النصوص (للاطلاع على شرح وافٍ لنشأة الأنثروبولوجيا والاستشراق ضمن ظهور النظام الجامعي الحديث، انظر الفصل الأول من Wallerstein 2004).

وبينما اشترك الاستشراق مع الأنثروبولوجيا في الهدف، وهو فهم المجتمعات غير الغربية، اختلفت الوسائل. فكانت الأداة الرئيسية للبحث في الأنثروبولوجيا هي العمل الميداني، بينما مال المستشرقون للاعتقاد بأن مفتاح فهم أهل الحضارات العليا سابقاً يكمن في قراءة النصوص الرئيسية التي أفرزتها حضاراتهم. وكانت فرضيتهم الرئيسية أن شيئًا ما في ثقافة كل من تلك الحضارات أدى إلى “تجميد” تاريخها على نحو استحال معه عليها أن تمضي قدمًا، مثلما فعلت أوروبا المسيحية، نحو “الحداثة” (Wallerstein 2004: 7-9). وتتجسد تلك الثقافات في نصوص أساسية تُمثِّل دراستها مفتاح فهم “جوهر” الشعوب المعنية، ومن هنا أتت “الجوهرانية” التي اتسم بها الاستشراق.

غير أن “الاستشراق” كما فهمه إدوارد سعيد في كتابه القيم والمثير للجدل المشار إليه أعلاه لم يكن مجرد إنتاج للمعرفة، بل تعبير عن علاقات قوة. فمن خلال منظوره المتأثر بميشيل فوكو في فهمه للصلة الوثيقة بين المعرفة والقوة، كشف سعيد عن صلة حميمة بين الاستعمار والاستشراق. فالأخير هو خطاب قوة يمارسه الغرب على الشرق، ويُشكِّل “أسلوبًا غربيًا للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلط عليه” (سعيد 2018: 46).

كان ظهور كتاب الاستشراق في 1978 حدثًا فكريًا بارزاً، وأسهم في نشأة حقل معرفي هو “نظرية ما بعد الكولونيالية” معني بالبحث في الكيفية التي “شكَّلت بها علاقات السيطرة والخضوع والمقاومة التي نشأت في عضر الإمبراطوريات الأوروبية، ولا تزال تُشكِّل على نحو منتظم، خطابات وممارسات لا المستعمِرين والمستعمَرين بالأمس فقط، لكن أيضًا المستعمِرين السابقين والمستعمَرين السابقين في شمال العالم وجنوبه اليوم” (Callinicos 2008: 148). وجدير بالذكر أن الاستشراق لم يقتصر على التعامل الغربي مع الإسلام وعالمه، بل شمل الهند والصين أيضًا. وبقدر تناوله للإسلام، ليس من الإنصاف ألا نعترف بما للاستشراق من أفضال في الكشف عن كنوز التراث الإسلامي، كما أنه من الظلم اختزال الاستشراق في خانة العداء للإسلام. فبعض المستشرقين كان لديهم افتتان حقيقي واحترام كبير للشرق عمومًا والإسلام خصوصًا. لكن بالطبع يظل صحيحًا أن الاستشراق مال في مجمله إلى تصوُّر المسلمين باعتبارهم “آخرين” لهم جوهر خاص، وأن نظرة الكثير من المستشرقين للإسلام والمسلمين كانت سلبية.

لكن هل النظرة السلبية للإسلام والمسلمين متجذرة في “العداء المتأصل” بين “دار الإسلام” و”العالم المسيحي” منذ نشأة الإسلام؟ كثير من “الغيورين على الإسلام” يعتقدون ذلك، لكن النظرة التاريخية كفيلة بتفنيد اعتقادهم. صحيح أنه على مدى ألف عام منذ الغزوات/الفتوحات العربية الأولى في أواسط القرن السابع الميلادي حتى حصار فيينا الفاشل من قِبَل العثمانيين في أواخر القرن السابع عشر، غلب الطابع السلبي على التفاعلات بين هذين العالمين؛ وصحيح أن النظرة الأوروبية المسيحية للإسلام طوال تلك القرون غلبت عليها تصورات لاهوتية سلبية عن الإسلام والمسلمين، تراوحت بين نظر كتُّاب مسيحيين إلى المسلمين كعذاب أرسله الله إلى المسيحيين عقابًا لهم على خطاياهم، واعتبار المسلمين وثنيين على شاكلة عبدة الأصنام الرومان القدامى الذين ناضل ضدهم المسيحيون الأوائل، وأخيرًا النظر إلى الإسلام كنوع من الهرطقة المسيحية؛ غير أن أوروبا الحديثة تجاوزت مثل تلك الهواجس اللاهوتية منذ أمد ليس بالقصير! واعتبار النظرة الاستشراقية الاستعلائية تجاه الإسلام وما اقترن بها خلال العقود الأخيرة من إسلاموفوبيا مجرد امتداد للعداء اللاهوتي للإسلام من جانب مسيحية العصور الوسطى لا يقل سذاجة عن اعتبار بعض الإخوان المسلمين، وهم بالتأكيد من “الغيورين على الإسلام”، أن محنتهم في مصر اليوم “تبدأ بقصة النبي يوسف في سجون فرعون”! وهو لا يقل سذاجة كذلك عن اعتبار بعض أنصار النظام الراهن، وكثير منهم أيضًا من “الغيورين على الإسلام” أن “قمع النظام للإخوان المسلمين يشبه طرد أحمس للهكسوس” (فهمي 2019). والواقع أن عصر التنوير الأوروبي أفرز تصورات أكثر إيجابية وتوازنًا وعقلانية بكثير عن الإسلام، كما أن الرؤى القروسطية المسيحية للإسلام، مهما كانت عدائية، لم تكن تتسم بالنظرة الاستعلائية الحديثة التي هي بنت الاستعمار بامتياز.

وتجدر الإشارة إلى أنه حين وجدت الولايات المتحدة نفسها بعد الحرب العالمية الثانية في موقع وريث تركة الاستعمار الأوروبي، لم تكن نظرتها لما سرعان ما سيُسمى “العالم الثالث” نظرة استشراقية عمومًا. فقد تزامنت هيمنة الولايات المتحدة مع صعود نزعات التحرر والاستقلال في المستعمرات السابقة. ومثلما يُذكِّرنا وولرستاين، “أدى هذا التزامن إلى جعل تقسيم العمل القائم في العلوم الاجتماعية – التاريخ والاقتصاد وعلم الاجتماع والعلوم السياسية لدراسة الغرب؛ والأنثروبولوجيا والاستشراق لدراسة الباقي – عديم النفع تمامًا بالنسبة لصانعي السياسات في الولايات المتحدة” (Wallerstein 2004: 9). فالقوة العظمى الجديدة كانت مهتمة بمعرفة أحوال العالم الثالث المعاصرة أكثر من اهتمامها بفك شفرات الكتب المقدسة التاوية أو البوذية أو الإسلامية أو الإلمام بأنماط القرابة لدى شعوب البنتو. ولذا رأت أن المعرفة التي يمكن للمستشرقين والأنثروبولوجيين توفيرها محدودة النفع. والحل لهذا المأزق كان تدريب أخصائي العلوم الاجتماعية الحديثة على دراسة التطورات المعاصرة في العالم الثالث، ومن هنا نشأت في جامعات الولايات المتحدة أولاً ثم في سائر أنحاء العالم “دراسات المناطق”. وتمثلت كلمة السر هنا في مفهوم “التنمية” الذي تأسس على فرضية مؤداها أن المجتمعات جميعًا، بما فيها النامية، تسير على نفس الخطى وإن يكن بوتائر متفاوتة. وهكذا راح مفهوم “التنمية” يخدم بشكل غير مباشر سياسة الولايات المتحدة في “فتح الأبواب المغلقة” أمام منتجاتها واستثماراتها ونموذجها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وكامتداد طبيعي لرسالة “نشر الحضارة” التي انتهجتها الإمبراطورية البريطانية في أغلب مجالها الاستعماري، راحت الولايات المتحدة بدورها تعمل على “إنشاء مؤسَّسات مُستنسَخة” من مؤسساتها في البلدان المنضوية ضمن معسكرها في الحرب الباردة.. إلا في الشرق الأوسط، وبالذات في المناطق العربية الغنية بالنفط التي دانت لها السيطرة عليها. ومثلما يشرح جلبير الأشقر فاضحًا ما يمكن تسميته “الاستثناء الاستشراقي”:

صون الولايات المتّحدة لأكثر السّمات الاجتماعيّة رجعيّةً في المملكة العربية السعودية، بما فيها المعاملة المُروِّعة للنساء والنظام السياسيّ والثقافي التوتاليتاريّ، وعلى الرغم من أنّ المملكة كانت في حقيقة الأمر محميّة أميركيّة بعد الحرب العالميّة الثانية، هذا الواقع يتعارض بحدّة مع الادّعاءات الأيديولوجيّة للولايات المتّحدة في قيادة «العالم الحرّ» بوصفها منارة للديمقراطيّة وحقوق الإنسان. [فالولايات المتحدة امتنعت]… كليًّا عن السعي إلى تحديث المملكة اجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، مخافة أن يتسبّب ذلك بزعزعة استقرارها السياسيّ في محيطٍ جيوسياسي كان يتّسم بجيَشان التيّارات اليساريّة المناهضة للإمبرياليّة (الأشقر 2018).

لكن الاستمرارية في موقف الولايات المتحدة حيال الإسلام طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية لا تنفي الانقطاع. فانتهاء الحرب الباردة أفرز مفهوم صدام الحضارات بصبغته الاستشراقية العدائية تجاه الإسلام والمسلمين، ثم كانت عواقب هجمات 11 سبتمبر نقطة تحول كيفية في تصاعد الإسلاموفوبيا، لا في الولايات المتحدة فحسب، بل لا في الغرب وحده، لكن على الصعيد العالمي.

 

باء – الحادي عشر من سبتمبر نقطة تحوُّل

لا شك أن ما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر ليس كمثل ما قبلها. جرى تعميم خطاب “الحرب على الإرهاب” على نحو لم يكن متصورًا قبلها. وبموازاة ذلك طرأ تغيير حاد على الذاكرة الجماعية التي صاغت الوجدان العام في الغرب طوال عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية. فحتى انتهاء القرن العشرين، ظل إرث هذه الحرب ماثلاً في الأذهان والقلوب بوصفها انتصارًا تاريخيًا على ويلات الفاشية والنازية. وبغض النظر عن مدى الدقة التاريخية لهذا الفهم، فإنه ظل يُشكِّل متراسًا يحول دون خروج أقصى اليمين من الهامش الضيق إلى قلب الحياة السياسية.

ويمكن القول بأن الحادي عشر من سبتمبر اندمج في ذاكرة الحرب العالمية الثانية من خلال عملية انتزاع عميق وعنيف لهجمات ذلك اليوم من سياقها، على نحو بات معه ضحاياها يقترنون بضحايا المحرقة النازية، وبالتالي نشأ في الوجدان تماثل بين النازية وعدو الغرب الجديد، الإسلامي أو حتى المسلم هذه المرة.

وجدير بالذكر أن حدة “المسألة الإسلامية” أشد بمراحل في أوروبا منها في الولايات المتحدة، فالإسلاموفوبيا تظل إلى حد كبير في هذه الأخيرة “إسلاموفوبيا سياسية”، يجري من خلالها تبرير مغامرات عسكرية ترمي إلى النهب والسيطرة واستعراض العضلات. أما أوروبا، وفرنسا بالذات، فهي موطن تصنيع “الخطر الإسلامي” الداخلي، لا الخارجي فقط، بامتياز. وبعض أسباب ذلك يعود إلى أن أوروبا عانت خلال العقدين الأخيرين مما يمكن اعتباره “11 سبتمبر مجزأ” أو على مراحل. فقد تعرضت مدن أوروبية عديدة، أبرزها مدريد ولندن وباريس، لحوادث عنف دامية، بعضها على هيئة هجمات إرهابية شنها متطرفون مسلمون، منظمون جيدًا أحيانًا، وأخرى على شكل ردود فعل عنيفة لمواقف اعتُبرت مسيئة للإسلام، مثلما هو الحال مع ذبح باتي مؤخرًا. لكن السبب الآخر، وربما الأهم، الذي يجعل الشعور بالخطر الإسلامي أشد في أوروبا منه في الولايات المتحدة، يعود إلى الكثافة النسبية لهجرة المسلمين إلى القارة العجوز مقارنة بالعم سام. (انظر Green 2019: 38). لكن التوترات المقترنة بأحوال المسلمين في أوروبا لا تتعلق أساسًا بالأعداد، بل بالتوجهات المفترضة. فنمو السكان المسلمين في القارة العجوز منذ أواسط القرن العشرين يسير يدًا بيد مع عملية علمنة متزايدة للمجتمعات الأوروبية، وهي علمنة تتخذ عمليًا شكل “نزع الطابع المسيحي” (de-Christianization). وإذ يتزامن مع تنامي السكان المسلمين تأكيدهم المتزايد لهويتهم الدينية في المجال العام بينما يخفت تأثير المسيحية ودورها العام، تنشأ توترات مكتومة حينًا وزاعقة حينًا لا نتيجة لعداوة أو حتى منافسة بين المسيحية والإسلام، بل لأن الأوروبيين المعتادين على اعتبار الدين شأنًا خاصًا يساور بعضهم القلق، في خضم أزمات متفاقمة من كل لون، إزاء ما يرون فيه، بمبالغات يشوبها الهوس أحيانًا كما سنرى في الحالة الفرنسية أدناه، تحديًا للقيم العلمانية.

وفي غضون ذلك يتنامى القلق ويتفنن تجار الخوف في إثارته، وتصدر تشريعات تمنح سلطات استثنائية للأجهزة الأمنية بهدف مقاومة الإرهاب الفعلي أو “المحتمل”، وتترتب على ذلك انتهاكات وممارسات قمعية تمييزية تقترفها وكالات “الأمن والنظام” انتهاكًا للقانون حينًا وبتخويل منه أحيانًا، بينما يمضي قطار “الحرب على الإرهاب” مبررًا، إلى جانب تزايد التضييق على الحريات والانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان داخليًا، حروبًا توسعية مدمرة لنسيج بلدان مثل العراق وأفغانستان وباهظة التكلفة على كل صعيد.

مما سبق يتضح أن الإسلاموفوبيا حقيقة لا شك في وجودها وتفاقمها في الغرب خلال العقود الأخيرة. لكن مع وقوع الأزمة الاقتصادية العالمية في 2007-2008، تجذرت الإسلاموفوبيا أكثر داخل النسيج الاجتماعي والسياسي، كما سنرى أدناه، ولكن بعد طرح ملاحظتين بشأن خصوصية الحالة الفرنسية في السنوات الأولى للألفية.

فرنسا هي الدولة الرأسمالية المتقدمة التي ذهبت إلى أبعد مدى في مقاومة منطق “الحرب على الإرهاب” بعد هجمات 11 سبتمبر. قد يبدو ذلك مدهشًا على خلفية الأحداث الجارية، لكنه حدث بالفعل وهو الوجه الأول للاستثناء الفرنسي فيما يتعلق بالإسلاموفوبيا التالية لهجمات 11 سبتمبر والسابقة على اندلاع الأزمة الاقتصادية. وتجلت المقاومة المذكورة في رفض الغزو الأمريكي للعراق، حيث عارض الرئيس جاك شيراك الحرب ورفض إرسال قوات فرنسية إلى العراق. ولم يكن هذا موقفًا منفردًا لشيراك، بل أيده فيه يمين الوسط ويسار الوسط، وأضفى ذلك مزيدًا من المشروعية على الوضع السياسي في فرنسا تجلت في انخفاض الأصوات التي حصدتها “الجبهة القومية” في الانتخابات الرئاسية لعام 2007 إلى 10% فقط مقابل 17% في الانتخابات السابقة عليها، في أول تراجع للجبهة منذ أوائل التسعينات، وراحت الحياة السياسية “المعتدلة” ترسخ نفسها بحصول يمين الوسط ويسار الوسط معًا على نحو ثلثي الأصوات. وانتشرت في النقاش السياسي الفرنسي رؤى حكيمة تؤكد ضرورة وضع هجمات 11 سبتمبر في سياقها التاريخي وفهم العوامل السياسية التي جعلتها ممكنة (دون أن تبررها)، بعيدًا عن الهوس السائد في الغرب عمومًا والذي جعل من الإرهاب غولاً وجوديًا لا سبيل لتفسيره سوى بكونه متأصلاً في العنف الكامن في الإسلام.

لكن هذا “الاستثناء الفرنسي” قابله استثناء آخر مضاد له في الاتجاه ومعادل له في القوة على أرضية محفِّز آخر للإسلاموفوبيا، وهو الحجاب الإسلامي. وكانت توترات قد أثيرت بشأن الحجاب (غطاء الرأس) في فرنسا في مناسبتين سابقتين انتهت المشكلة فيهما “دون حسم”. أما في عام 2003، فقد تجدد التوتر على خلفية حرمان أختين من حصة الألعاب بسبب إصرارهن على الاحتفاظ بالحجاب خلالها. وتصاعد الموقف سريعًا حينما أنشأ الرئيس شيراك في يوليو 2003 لجنة لبحث إمكانية سن قانون للتعامل مع “مشكلة” الحجاب في المدارس العامة. وأصدرت اللجنة تقريرها في ديسمبر وأوصت فيه بحظر الرموز الدينية الجلية. وتزامن صدور التقرير مع استطلاع رأي كشف عن تنامي تأييد الرأي العام لإصدار قانون، حيث أعرب 72% ممن استُطلعت آراؤهم عن تأييد حظر الرموز المرئية للانتماء الديني في المدارس العامة. وبالفعل سن البرلمان الفرنسي القانون في مارس 2004، ونص على حظر “ارتداء رموز أو ملابس تكشف على نحو ظاهر الانتماء الديني”. ولم يقتصر حظر القانون للرموز الجلية على الحجاب، بل شمل أيضًا الصلبان الكبيرة والطاقية اليهودية، وذلك في محاولة، ناجحة، لقطع الطريق على اتهامه بالتمييز من خلال الاستهداف الحصري للمسلمين، أو بالأحرى في هذه الحالة المسلمات. غير أن السجالات التي سبقت صدور القانون ومداولات اللجنة الحكومية التي أوصت به، بل والمناسبة التي أطلقت الجدال أصلاً، لم تدع مجالاً للشك في أن الشاغل الحقيقي كان هو ارتداء بعض الطالبات المسلمات للحجاب (Green 2019: 307-309).

استند تبرير القانون إلى مزيج من حجتين، نسوية وعلمانية. ذهبت الحجة النسوية إلى أن الحجاب يرمز لقهر المرأة وخضوعها، ويتعارض بالتالي مع الالتزام الفرنسي بالمساواة بين الجنسين. أما الحجة العلمانية، فهي ضرورة “إبقاء الدين خارج نطاق الفضاء العام”. غير أن النظرة الفاحصة تكشف أننا هنا إزاء تشويه للنسوية والعلمانية معًا. فالحجة النسوية تتناسى أن الحجاب مسألة مركبة وأن دوافع ارتدائه متعددة ولا يمكن اختزالها في إجبار الرجل للمرأة على لبسه أو حتى القهر الذاتي للمرأة نتيجة لتبنيها لمنظور ذكوري كاره لجنسها. بل إن المناسبة التي أطلقت جدال الحجاب في 2003 تؤكد ذلك. فالأختان بطلتا واقعة رفض خلعه في حصة الألعاب فعلتا ذلك على عكس إرادة الأسرة. وأكد والدهما، الذي وصف نفسه بأنه “ملحد يهودي”، أنه يعارض شخصيًا اختيار ابنتيه لكنه يؤيد حقهما في الاختيار. والحاصل أن حظر الحجاب باسم تحرير المرأة هو الوجه الآخر لفرض الحجاب باسم العفة، إذ تضيع حريتها في الحالتين، وهو ما يعبر عنه جلبير الأشقر في تعليقه “والحال أن حظر الحجاب يضفي المزيد من الشرعيّة على فرضه في نظر مَن يعتبرونه ركنًا من أركان الإيمان. فلا تُمْكن مواجهةُ الإكراه الدينيّ بصورةٍ مشروعةٍ وفعّالةٍ سوى بالتسلّح بمبدأ حريّة الاعتقاد والممارسة الدينيّة… مع احترام الحكومات العلمانيّة لهذا المبدأ” (الأشقر 2011). ويقودنا هذا الذكر للعلمانية إلى الحجة الثانية التي قام ويقوم عليها حظر الحجاب.

العلمانية في فرنسا مبدأ دستوري ينص على عدم قيام الدولة بتعليم أي دين وعدم سماحها لأي دين بالتدخل في تنظيم التعليم العام. وعلى العكس مما هو شائع، ليست العلمانية متأصلة في جوهر ما للجمهورية في فرنسا، بل فرضتها الجمهورية الثالثة تحديدًا من أجل وضع نهاية للسيطرة على التعليم العام من قِبَل الكنيسة الكاثوليكية التي أسس لها قانون صادر عن الجمهورية الثانية! فالمعنى القانوني، والمعقول جدًا من منظور إنساني، للعلمانية في فرنسا هو حياد الدولة في الشأن الديني، وهي بهذا المعنى لازمة من لوازم الديمقراطية وحقوق الإنسان. غير أن “أيديولوجيي العلمانية الجدد”، على حد تعبير المفكر اليساري الفرنسي جاك رونسيار، غيروا بالكلية معنى المفهوم، إذ حولوه من التزام واقع على الدولة بالحياد الديني إلى قاعدة للسلوك يتعين على الدولة فرضها على الطلاب والطالبات، وعلى أمهاتهم، ثم على النساء جميعًا في المجتمع كله في نهاية المطاف (Ranciére 2020). ينبغي إذن الدفاع عن العلمانية الفرنسية بمعنى فصل الدين عن الدولة، بشرط عدم الخلط بين الفصل والحظر، بين احترام الدولة للحرية الدينية وتحولها إلى شرطي يجبر الدين على التخفي ويلزمه بأن يكون “غير مرئي”.

على أي حال، جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية لكي تتزامن مع تخلي فرنسا عن مقاومتها لمنطق الحرب على الإرهاب، بينما راح الوجه الآخر، الكريه، للاستثناء الفرنسي بشأن الإسلاموفوبيا، يزداد تصلبًا!

 

جيم – التلاقي اليميني وترسيخ الإسلاموفوبيا في سياق الأزمة الاقتصادية العالمية

ليس غريبًا أن تفضي الأزمات الاقتصادية الكبرى إلى تغيرات سياسية كبيرة. فأزمة “الكساد الكبير” (أو الطويل) خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر أفرزت توسعًا استعماريًا هائلاً أجّج الصراعات بين الإمبرياليات بشكل بلغ ذروته مع الحرب العالمية الأولى. وأزمة “الكساد العظيم” اعتبارًا من 1929 أفرزت النازية وتوحُّش الستالينية لا تجاه الشمولية وحكم الإرهاب فحسب، بل أيضًا التصاعد الكيفي في الاستغلال الفاحش الذي خضع له الفلاحون والعمال، وأفضى ذلك كله إلى الحرب العالمية الثانية. أما أزمة الركود التضخمي منذ أوائل السبعينات، فأفرزت تآكل دولة الرفاه وصعود مد يميني بقيادة تاتشر في بريطانيا وريجان في أمريكا ثم تعميم النيوليبرالية على العالم. وليست الأزمة الراهنة التي اندلعت شراراتها الأولى في 2007 باستثناء في هذا الصدد، وإن كنا لم نشهد بعد كافة تداعياتها.

وقد بدا مؤخرًا أن اليمين المحافظ في الغرب أخذ ينفتح على تخومه الخارجية في أقصى اليمين، سواء على صعيد الأفكار أو التحالفات السياسية، فيما أسماه المؤرخ الماركسي البريطاني ديفيد رينتون “التلاقي اليميني” (convergence on the right). وتحديدًا خلال السنة الممتدة بين يونيو 2016 ومايو 2017 حقق هذا التلاقي اليميني انتصارات سياسية مهمة تمثلت في استفتاء البركسيت في المملكة المتحدة، وانتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، وبلوغ مارين لوبين المرحلة الثانية للانتخاباب الرئاسية الفرنسية (Renton 2019). وسنطيل الوقوف عند البركسيت قليلًا، ويعتمد تحليلنا له اعتمادًا كبيرًا على قراءة رينتون للأحداث.

بدأت حملة إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في سنوات مارجريت تاتشر الأخيرة في الحكم واكتسبت زخمًا إضافيًا مع خروجها من السلطة، وذلك في صفوف أشد أنصارها حماسةً داخل حزب المحافظين وخارجه. والواقع أن اليمين المحافظ البريطاني لم يكن لديه تاريخيًا موقفٌ معادٍ للمشروع الأوروبي، غير أن تاتشر في أواخر سنواتها العشر في السلطة باتت معادية  للاتحاد الأوروبي، الذي أصبحت ترى في قادته المعادل لـ”المحافظين” المعتدلين، ممن لا يمتلكون الإرادة الكافية لخوض معركة انتصار الرأسمال الحاسم على العمال. وجاءت القشة التي قصمت ظهر البعير على خلفية السياسات الاجتماعية الأوروبية، حينما خاطب رئيس المفوضية الأوروبية جاك ديلور المؤتمر النقابي البريطاني في سبتمبر 1988 معلنًا مقترحات للمفوضية بشأن الحوار بين أرباب العمل والنقابات، وواعدًا بصون وتوسيع الحقوق العمالية في المساومة الجماعية والأمان الوظيفي. ناقضت نبرة ديلور وفحوى مقترحاته المناخ المعادي للعمال داخل بريطانيا على خلفية هزيمة إضراب عمال المناجم التاريخي، إلى حد دفع المندوبين في المؤتمر للهتاف الطويل، بل غنوا له أغنية “فرير جاك” الشهيرة! وجاء رد تاتشر فوريًا وعنيفًا في خطبة شهيرة لها في مدينة “بروج” البلجيكية، حيث شبهت الاتحاد الأوروبي بروسيا الشيوعية وتباهت بانتصار قيم “المشروع الحر” في بريطانيا مقابل فشلها المبين في رأيها في أوروبا. وسرعان ما تأسس على أساس هذه الخطبة مركز فكري باسم “مجموعة بروج” (Bruges group) يطالب بخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وهو المركز الذي سرعان ما أصبح بمثابة حزب سياسي وخرج من عباءته “حزب استقلال المملكة المتحدة” أو “يوكيب” (UKIP). واشتد بالتوازي الاستقطاب داخل حزب المحافظين بين أنصار تاتشر وخصومها، وتمحور حول المسألة الأوروبية. ولسنوات طوال، لم يكن هناك اختلاف يُذكر في التوجهات بين حزب “يوكيب” والجناح التاتشري داخل “المحافظين”، غير أن ذلك لم يستمر. فمع أوائل الألفية الجديدة، وتحديدًا اعتبارًا من 2004، خطا “ويكيب” خطوات حاسمة في التحوُّل من اليمين المحافظ إلى أقصى اليمين الرجعي على خلفية العداء الشديد والعنصري للمهاجرين، وبالأخص للمسلمين منهم. هكذا، فمع التجذر اليميني لحزب “ويكيب”، النصير الأكبر للخروج من الاتحاد الأوروبي، بات البركسيت أقرب إلى أقصى اليمين وتبلور في شبكة من التنظيمات حول “ويكيب” في صفوف جيل هجر “المحافظين” وتخندق بوضوح في دوائر اليمين الجذري (انظر الفصل الثالث من Renton 2019).

هذه الخلفية مهمة لفهم ما حدث في استفتاء 2016. فخلال الأشهر السابقة عليه، وفي ظل مؤشرات على أن قاعدة “المحافظين” آخذة في التخلي عن قيادات الحزب المؤيدة للبقاء في الاتحاد الأوروبي، رأى بعض الساسة الأكثر شعبوية في الحزب، مثل بوريس جونسون ومايكل جوف، أن تعزيز فرصهم في تبوء قيادة الحزب يمر عبر التودد إلى أنصاره الساخطين على قيادته، وهكذا أعلنوا عن تأييدهم للتصويت لصالح الخروج وخاضوا حملة البركسيت استناداً إلى استراتيجية للتلاقي بين اليمين المحافظ وأقصى اليمين الرجعي.

كيف انتصر البركسيت؟ لننظر في توزيع الأصوات في الاستفتاء (انظر Ashcroft and Culwick 2016). جرى أغلب التصويت على أسس حزبية. فجميع أنصار “ويكيب” تقريبًا صوتوا لصالح الخروج. وكذلك صوتت أغلبية من “المحافظين” لصالح الخروج، لكنها أغلبية أقل بكثير قدرها 58%. ويعود الانقسام في صفوف “المحافظين” أساسًا إلى تمسُّك قيادة الحزب وعلى رأسها رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بالبقاء في الاتحاد، بينما تمرد الجزء الأكبر من قاعدة الحزب بمساندة بعض قياداته. وبينما كانت غالبية كبيرة من المصوتين لصالح البركسيت من أنصار اليمين المحافظ وأقصى اليمين، لم يكن هؤلاء وحدهم كفيلين بترجيح كفة الخروج. ولم يتم تأمين غالبية من الأصوات لصالح الخروج سوى باستمالة أقلية معتبرة من المصوتين العماليين وغير المحافظين. ويتضح ذلك من توزيع أصوات أنصار حزب “العمال”، إذ صوَّت 63% منهم لصالح البقاء، بينما صوَّت 37% منهم لصالح الخروج وكان ذلك كفيلاً بحسم نتيجة الاستفتاء. كيف استمال التلاقي اليميني هؤلاء؟ من خلال تصوير البركسيت كسبيل للحفاظ على دولة الرفاه لكن مع “عرقنتها”. بعبارة أخرى، أقنعت حملة البركسيت قطاعًا من مصوتي “العمال” بأن الهجرة تمثل خطرًا على معاشاتهم التقاعدية واستحقاقتهم وأن تقليص حقوق المهاجرين بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يعيد الحياة لصيغة جديدة معرقنة من دولة الرفاه تُنتزع فيها المكاسب لا ممن هم في قمة المجتمع بل ممن هم في قاعه. ولهذا تحديدًا باتت بريطانيا ما بعد الاستفتاء أشد تعصبًا وسلطوية وعنصرية منها قبله ويتجلى في الجو السياسي القاتم السائد في البلد، بما في ذلك حملة الشيطنة ضد يسار حزب العمال، وضد زعيمه جيرمي كوربين شخصيًا.

هكذا تحوَّل مشروع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عن طابعه اليميني المحافظ لكي يكتسب، على إيقاع الألفية الجديدة المأزوم، طابعًا عنصريًا شديد الرجعية وبات يندرج في أقصى اليمين على خلفية العداء للمهاجرين والمسلمين. ومع اختلاف الملابسات، يمكن أن يقال شيءٌ مشابه عن دونالد ترامب في الولايات المتحدة. فترامب حين دخل حلبة المنافسة على الرئاسة لأول مرة في شتاء 1999، فعل ذلك على أرضية وسطية مناهضة للعنصرية! وقتها كان يتنافس على الترشح عن “حزب الإصلاح” مع “الجمهوري” السابق بات بوكانان، وقامت حملة ترامب على فضح توجهات بوكانان الرجعية المناهضة لليهود والنساء والمثليين جنسيًا. أما ترامب “كما نعرفه”، فظهر مع محاولته الثانية للوصول إلى البيت الأبيض في أواخر مدة رئاسة أوباما الأولى، حيث كان مدخله الرئيسي لجذب الأضواء هو زعمه أن أوباما كيني الجنسية مسلم الديانة! وكان هذا هو الأساس لشعبية ترامب في صفوف أقصى اليمين خارج وداخل صفوف “الجمهوريين”، والتي دفعت قيادة الحزب لتبنيه مرشحًا عنه، وبقية القصة المؤسفة معروفة وهي لم تنته بخسارة ترامب للانتخابات مؤخرًا.

والدلالة الرئيسية لانتصار البركسيت وترامب هي إعادة تشكيل الخريطة السياسية لليمين. فتاريخيًا، كان اليمين التقليدي في البلدان الرأسمالية المتقدمة حريصًا على قفل الباب أمام أقصى اليمين، ولا سيما الفاشي، وهي السياسة المسماة “حراسة البوابة”. ولا يتخلى يمين الوسط عن هذه السياسة إلا في فترات تأزم الرأسمالية التي قد تدفعه للتلاقي مع أقصى اليمين. المثال الأكبر والأشهر على ذلك تمثَّل في صعود الفاشية والنازية في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. ومثلما كان الحال آنذاك، يأتي التلاقي اليميني هذه المرة أيضًا على خلفية أزمة اقتصادية كبرى. وقوضت الأزمة مصداقية النموذج النيوليبرالي، غير أن حكومتي يسار الوسط في البلدين اختارتا إزاءها الدعم الواسع للبنوك على حساب دافع الضرائب، مع الامتناع عن أي تعديل في المؤسسات والعلاقات التي ولَّدت الأزمة أصلاً. ومع التنفيذ الصارم لسياسات التقشف خلال الفترة 2008-2015، وعجز اليسار عن توفير بديل مقنع، انجرف المزاج الشعبي يمينًا بدافع السخط. لكن التلاقي بين يمين الوسط وأقصى اليمين ليس مجرد تعبير عن السخط، بل له مضمون اجتماعي-اقتصادي يتمثل في قطع جزئي مع النيوليبرالية المفتقرة إلى المصداقية والشرعية والشعبية، وهو قطع يتمثل جانبه الأهم في التبشير بشكل جديد من دولة الرفاه المعرقنة، التي تعد المواطن “الأصلي” بقدر من استحقاقات الرفاه بشرط إقصاء المهاجرين. وتُشكِّل الإسلاموفوبيا الغطاء الأيديولوجي الأبرز لهذا التلاقي اليميني الجديد، المتسم بمزيج من النيوليبرالية المعدلة والسلطوية والعنصرية.

وتوفر فرنسا نموذجًا آخر للتلاقي اليميني، حيث أعطى فوز البركسيت ثم ترامب دفعة قوية لمارين لوبين، زعيمة “الجبهة القومية” (“التجمع القومي” الآن) العنصرية وذات الجذور الفاشية. والحال أن “الجبهة القومية” حققت صعودًا شبه متواصل على مر العقود الثلاثة الأخيرة وباتت قوة كبيرة على المسرح السياسي، بينما تمثَّلت استجابة يمين الوسط ويسار الوسط معًا في الحرص على إبقاء “الجبهة” خارج الرئاسة والبرلمان من خلال استعارة توجهاتها السياسية مع مطالبة الناخبين بعدم التصويت لها! كان هذا شكلاً بالغ البؤس من “حراسة البوابة” لم يؤدِ سوى إلى منح المصداقية لخطاب أقصى اليمين المناهض للمسلمين والمهاجرين والمطالب برئاسة سلطوية. وتجلى إفلاس “حراسة البوابة” على الطريقة الفرنسية مع حصول مارين لوبين على المركز الثاني في الجولة الأولى ووصولها للجولة الثانية من انتخابات الرئاسة. قارن رد الفعل بما جرى قبل 15 عامًا حينما كان والدها في نفس الموقع. وقتها انتفضت فرنسا كلها لقطع الطريق على أقصى اليمين. أما هذه المرة، فكان الإحباط سيد الموقف وأعلن أحد مرشحي يمين الوسط الخاسرين تأييده للوبين الابنة في الجولة الثانية في شكل من أشكال التلاقي اليميني.

والحال أن الناخب الفرنسي كان في الجولة الثانية أمام مرشحين يرفعان شعار “لا يمين ولا يسار”، لكن بمحتوى مختلف. فبينما رفضت لوبين اليمين واليسار من موقع أقصى اليمين العنصري، بدا ماكرون متمترسًا فيما يسمى تهكمًا “الوسط المتطرف”. وفاز ماكرون بمقعد الرئاسة لكنه بدا أضعف رئيس في تاريخ الجمهورية الخامسة من حيث عجزه عن الإقناع والهيمنة. غير أن هذا الرئيس الضعيف استغل إفلاس المؤسسة السياسية في فرنسا حيث انهار الحزب الاشتراكي تحت وطأة انزلاقه الدائم لليمين بينما عانى يمين الوسط من الانقسامات وفضائح الفساد. واستغل ماكرون هذا الفراغ في توطيد رئاسة سلطوية مهووسة بتقوية الأجهزة الأمنية وإضعاف البرلمان في استعارة لجانب ليس بالصغير من برنامج لوبين. ومع تراجع شعبيته الذي أشرنا إليه في مقدمة المقال، راح يستعير جانبًا آخر من سياسة من بات يصعب أن نسميها غريمته، وهو تسخير الإسلاموفوبيا في اكتساب شعبية رخيصة.

ونظرًا إلى ثقل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، لم يكن مفاجئًا أن يكون للتلاقي اليميني بعد 2016-2017 إشعاع عالمي ملحوظ، حيث برزت أشكال مختلفة له في قمة السلطة في عدد متزايد من البلدان، لا سيما في أوروبا الشرقية والجنوبية، لكن أيضًا في الهند وروسيا، في ظل جرعة شبه ثابتة من الإسلاموفوبيا تغذي ذلك التحالف غير المقدس بين يمين الوسط وأقصى اليمين. وثمة حالة بارزة على الأقل لا تلعب فيها الإسلاموفوبيا، بحكم السياق البعيد، دورًا يُذكر وهي حالة رئاسة بولسونارو في البرازيل، كما توجد حالة استثنائية على الأقل يستند فيها هذا التلاقي اليميني الجديد إلى الإسلام السياسي لا إلى الإسلاموفوبيا، وهي حالة تركيا أردوغان في السنوات الأخيرة حيث السلطوية المتزايدة على خلفية تحالف حزب العدالة والتنمية الحاكم مع قوى من أقصى اليمين أبرزها حزب “العمل القومي”.

ولا تقتصر الإسلاموفوبيا على التلاقي اليميني، بل هي أوسع انتشارًا، لكنها تتجلى في أكثر صورها اتساقًا وحدة لدى أقصى اليمين الغربي بالذات. وقد فتحت الباب للقبول بأقصى اليمين في الحياة السياسية واستعادته “الاحترام” حيث نزعت عنه الحظر السابق، وتزامن ذلك مع “تلطيف” هذا الأخير لعنصريته بتغليفها برداء أكثر قبولاً، بجعلها تقوم على “الاختلاف الثقافي” عوضًا عن لون البشرة أو العرق (لاحظ صلة ذلك بخطاب “صدام الحضارات”).

وبينما شكَّلت الإسلاموفوبيا أساسًا لأغلب حالات التلاقي اليميني مؤخرًا، أسهم هذا التلاقي بدوره في مفاقمة الإسلاموفوبيا، ومفاقمة كل شكل آخر من العنصرية. وأحد أهم مظاهر هذا التفاقم هو ترسيخ الصورة النمطية عن “الإرهاب الإسلامي” وصولاً إلى “أرهبة الإسلام” و”أسلمة الإرهاب” على نحو بات معه الإرهاب غير الإسلامي أقرب إلى الاستحالة المنطقية! وقد شهدنا مثالًا صارخًا على ذلك حتى قبل تشكُّل حالات التلاقي اليميني المذكورة عند وقوع هجومَيْ النرويج المأساويين في يوليو 2011، أي في عز “الربيع العربي”. فلنتأمل ذلك الحدث نظرًا لدلالته ورمزيته.

في مساء يوم جمعة من ذلك الشهر الصيفي، شن أنديرز بريفيك، وهو يميني متطرف، هجومًا إرهابيًا مزدوجًا أسفر عن مقتل 77 شخصًا في ذلك البلد الهادئ عادة. الهجوم الأول كان بسيارة مفخخة انفجرت في الحي الحكومي من العاصمة أوسلو، وأودت بحياة ثمانية أشخاص، بينما شمل الهجوم الثاني إطلاقًا مسعورًا للنيران على جزيرة تقع خارج أوسلو كانت تستضيف معسكرًا صيفيًا نظّمته “رابطة الشبيبة العمالية”، المنظمة الشبابية التابعة لحزب العمال النرويجي. وكان بريفيك قد استقل قاربًا إلى الجزيرة بعد تفجير السيارة المفخخة مرتديًا زي الشرطة، وجمع رواد المعسكر حوله بدعوى تأمينهم، ثم أطلق النيران مرديًا 69 قتيلاً قبل أن يُسلِّم نفسه للشرطة.

وفي غياب أي معلومات عن هوية الجاني، راحت كبريات الصحف العالمية تشير بأصبع الاتهام إلى “الإرهاب الإسلامي”. والعجيب أنه مع اتضاح هوية الجاني، المسيحي واليميني المتطرف، توقف تمامًا استخدام وصف “الهجوم الإرهابي” في تأكيد لاستحالة صدور الإرهاب عن رجل أبيض غير مسلم! وبالطبع كانت الإسلاموفوبيا الدافع الرئيسي وراء جريمة بريفيك، وإن لم يستهدف بجريمته مسلمين، بل سياسيين يساريين “خونة” لأن أدمغتهم ملوثة بأشياء من قبيل “الماركسية الثقافية”، حيث تبيَّن فيما بعد أن بريفيك كان قد كتب “مانيفستو” من 1500 صفحة يعلن فيه كراهيته “للماركسية والتعددية الثقافية والمسلمين”، في تعبير بليغ عن مشروع التلاقي اليميني الجاثم اليوم على صدر العالم كوباء لا يقل خطورة عن جائحة كوفيد-19.

 

رابعًا – بدلاً من خاتمة أو فتح نقاش بشأن أزمة الإسلام

حاول هذا المقال تقديم إجابات أولية، ناقصة بالضرورة، عن أسئلة بشأن الإسلاموفوبيا. وأكد المقال وجود الإسلاموفوبيا في الغرب وخارجه كشكل من أشكال العنصرية ورأى أنها اليوم في صميم المشروع السياسي لأقصى اليمين وأنها تُشكِّل جانبًا من الأساس الأيديولوجي لعدة تحالفات بين يمين الوسط وأقصى اليمين وصلت إلى قمة السلطة في عدد من الدول المهمة. وهذا كله إن صح يطرح أسئلة إضافية عن مدى التغذية المتبادلة بين الإسلاموفوبيا وحالات التلاقي اليميني، خصوصًا في الغرب الأوروبي والأمريكي، وعن سبل مقاومة هذا التلاقي اليميني، والدور المطلوب من المسلمين أنفسهم في هذا الصدد، وعن طبيعة أقصى اليمين نفسه اليوم، وأسئلة أخرى عديدة معقدة.

لكن ربما تثور أسئلة أعقد بشأن الجانب الآخر مما أسماه عنوان هذا المقال “الهوس بالإسلام”، وهو هذه المرة لا هوس كارهي الإسلام بل هوس محبيه، أو من أسميناهم “الغيورين على الإسلام”. وقد رأى المقال أن رد فعل هؤلاء على ذبح المدرس الفرنسي جاء مَرَضيًا، على نحو ربما كان حريًا معه، بقدر كون هذا المعسكر الفضفاض معبرًا عن واقع الإسلام خصوصًا في الشرق الأوسط اليوم، أن نطرح أيضًا سؤالاً أو مجموعة من الأسئلة عن أزمة الإسلام، بالتوازي مع انشغالنا بالإسلاموفوبيا.

ولا تسعى هذه الخاتمة للجواب عن سؤال أو أسئلة بمثل تعقيد واتساع قضية مثل “أزمة الإسلام”، لكنها تدافع فقط عن وجاهة طرح السؤال وتدعو للانشغال به عوضًا عن تنحيته جانبًا.

وتقديري أنه قد يثور، من وجهة نظر من يقر بوجود الإسلاموفوبيا، وجهان رئيسيان للاعتراض على طرح أسئلة بشأن أزمة الإسلام. الأول هو أنه ما دام الإسلام والمسلمون ضحية للإسلاموفوبيا، فإن التساؤل عن أزمة الإسلام في هذا السياق سيكون من قبيل إلقاء اللوم على الضحية. والاعتراض الثاني هو أن خطاب “أزمة الإسلام” نفسه جزء من الإسلاموفوبيا لا بد من رفضه ضمن التصدي لها.

لنبدأ بأول الاعتراضين. الإسلام والمسلمون ضحايا للإسلاموفوبيا. صحيح. لكن “أزمة الإسلام” ربما تكمن تحديدًا في كون المواقف السائدة بين هذه الكتلة الفضفاضة من “الغيورين على الإسلام”، خصوصًا في بلادنا، لا تُشكِّل تصديًا فعالاً للإسلاموفوبيا، بل تُسهِّل مهمة الإسلاموفوبيين في شيطنة الإسلام. لنأخذ مثلاً مسألة الحجاب. رأينا أن أحد مظاهر الإسلاموفوبيا هو حظر الحجاب باسم حرية المرأة ومساواتها بالرجل. وبالطبع سيشاطرنا “الغيورون على الإسلام” رفض هذا الحظر. لكن المشكلة أن موقفهم هنا يصعب وصفه بالمبدئية ما داموا ميالين بقوة لفرض الحجاب على المرأة. والواقع أن الرد المبدئي الوحيد على حظر الحجاب هو الدفاع عن حرية المرأة في اختيار ملابسها، وهو موقف بعيد جدًا عن تصورات “الغيورين على الإسلام” اليوم. ولننظر أيضًا في الموقف الغالب في صفوف المسلمين المتدينين اليوم من حرية العقيدة والفكر الديني، وبالتحديد حرية نقد الإسلام. هنا أيضًا تبدو المواقف والممارسات السائدة في صفوفهم مكرسة لأسوأ الصور النمطية عن الإسلام كدين كاره للحرية. قد يقول قائل إن وجه الاعتراض ليس على نقد الإسلام، بل على السخرية منه بشكل ينطوي على إزدراء، كما في الرسوم الكاريكاتورية التي كانت أصل الجدال الذي أفضى إلى مأساة ذبح المدرس الفرنسي. ولكن صامويل باتي كان أبعد ما يكون عن السخرية من الإسلام، بل كان ببساطة مدرسًا يؤدي عمله رأى أنه وهو يُدرِّس لطلابه بشأن موضوع حرية التعبير لا يمكنه أن يتجنب “الفيل الذي في الغرفة”، وهو تلك الرسوم التي اشتد الجدل حولها في فرنسا. ثم إن احترامه لمشاعر طلابه المسلمين جعله يُخيِّرهم بين حضور هذه الحصة أو الغياب عنها. غير أن المتابع للشأن العام في بلادنا يجد مائة مثال ومثال على رفض “الغيورين للإسلام” لتوجيه أي نقد لهذا الدين أو للتصورات السائدة عنه مهما كان جادًا ورصيناً! وليس مثال نصر حامد أبو زيد ببعيد.

ولننتقل إلى الاعتراض الثاني. صحيح أن الإسلاموفوبيين يقولون إن الإسلام دين مأزوم، لكننا يمكن أن نتفق معهم في هذا القول دون أن نقع في الإسلاموفوبيا، بالضبط مثلما يمكننا الاتفاق مع “الغيورين على الإسلام” في وجود الإسلاموفوبيا وفي رفضها دون أن نقع معهم في “الغيرة على الإسلام” على طريقة الدب الذي قتل صاحبه! و”أزمة الإسلام” من منظورنا تكمن تحديدًا في ضعف إسهام المسلمين في النضال الحقيقي ضد الإسلاموفوبيا. والواقع أن حديث الإسلاموفوبيين عن أزمة الإسلام هو حديث لا تاريخي هدفه شيطنة الإسلام والمسلمين وتبرير المواقف العنصرية ضد الاثنين. والمطلوب هو قلب خطاب “أزمة الإسلام” ضد أصحابه الإسلاموفوبيين. فأزمة الإسلام من هذا المنظور، والتي يتعين أن نتناولها تاريخيًا، تكمن تحديدًا في كون التجليات الراهنة للإسلام على الساحة السياسية، وخصوصًا في الشرق الأوسط، 1) تُسهِّل مهمة الإسلاموفيين في شيطنة الإسلام؛ 2) تحول دون أن يكون المسلمون في موضع القلب من النضال ضد المشروع اليميني الذي تُشكِّل الإسلاموفوبيا غطاءه الأيديولوجي.

وما دمنا أشرنا إلى الحاجة إلى تناول “أزمة الإسلام” تاريخيًا، فلنؤكد ضرورة دراسة تاريخ الإسلام نفسه دراسة نقدية لا تخشى طرح الأسئلة الحرجة. فالمطلوب ليس تجنُّب الحديث في التاريخ القديم عبر تعميمات صحيحة لكنها فارغة من المضمون عن تنوع ومرونة كل تراث ديني، بل “بالأحرى تفسير التاريخ الديني بل والدين نفسه تفسيرًا تاريخيًا عوضًا عن التفسير الديني للتاريخ” (الأشقر 2020).

وإذا صح أن الإسلاموفوبيا هي أساسًا اليوم الغطاء الأيديولوجي لتلاقي سلطوي وعنصري بين يمين الوسط وأقصى اليمين، فهذا يعني أن اليسار الجذري عليه أن يكون في طليعة النضال ضد هذا التلاقي اليميني الجديد، وضد الإسلاموفوبيا التي يقوم عليها، لكنه لا يعني تجنُّب توجيه النقد إلى الإسلام أو تحليل أزمته المحتملة.

مطلوب فهم الأسباب التاريخية التي يبدو معها هذا الدين وأنصاره، بشكل متزايد، خارج التاريخ وخارج قيم عصرنا الأساسية. ولعل المحور الرئيسي الذي ينبغي أن تدور حوله الأسئلة المطلوب طرحها في هذا السياق هو “خصوصية” الإسلام، تلك الخصوصية التي يتناولها البعض خارج التاريخ من منظور إسلامي أو إسلاموفوبي يتناقضان عقائديًا لكنهما يتفقان منهجيًا. في المقابل، يميل اليسار الرافض للعنصرية ضد المسلمين إلى الهرب من السؤال بنفي أي خصوصية للإسلام. فلنتناول بجدية سؤال خصوصية الإسلام لكن داخل التاريخ بحثًا عن الأسس والبدائل التي يمكن أن تجعل المسلمين، من داخل المنظور الإسلامي أو من خارجه، جزءًا أكثر فعالية من النضال الإنساني التحرري.

 

مراجع مختارة

باللغة العربية

إدوارد سعيد، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، طبعة 1995 المزيدة، القاهرة: رؤية، 2006.

جلبير الأشقر 2011، “الماركسيون والموقف من الدين بوجه عامّ، ومن الأصوليّة الإسلاميّة بوجهٍ خاصّ”، الحوار المتمدن، العدد 3451، أغسطس، متاح على الرابط التالي: .

ــــــــــــ 2018، “ماركس والشرق الأوسط (1 من 2)”، بدايات، العددان 20-21، ترجمة يزن الحاج، متاح على الرابط التالي: [ترجمة عربية لفصل كتبه جلبير الأشقر من “كتاب أكسفورد عن كارل ماركس” (The Oxford Handbook of Karl Marx) الصادر في عام 2019].

ــــــــــــــ 2020، “الدين والسياسة – الماركسية والإسلام”، رمان، 7 أبريل، متاح على الرابط التالي: .

خالد فهمي 2019، “التفكير مع علاء في قيمتنا كشعب”، مدى مصر، 23 ديسمبر، متاح على الرابط التالي:>.

بلغات أخرى

Ashcroft, A. and Culwick, M. 2016, Well you did ask … Why the UK voted to leave the EU. London: Biteback.

Bensaid, Daniel 2005, Fragments mécréants: mythes identitaires et république imaginaire. Paris: Editions Lignes et Manifestes.

Callinicos, Alex 2008, Marxists, Muslims and Religion: Anglo-French Attitudes, Historical Materialism 16, pp. 143-166.

Green, H. Green 2019, The Fear of Islam: An Introduction to Islamophobia in the West. Second Edition. Minneapolis: Fortress Press.

Halliday, Fred 1999, ““Islamophobia” Reconsidered”, Ethnic and Racial Studies 22 (September).

Ranciére, Jacques 2020, “À propos de la liberté d”expression”, Revue de Critique Communiste (Novembre).

Renton, David 2019, The New Authoritarians: Convergence on the Right, Chicago: Haymarkets Books.

The Runnymede Trust 1997, Islamophobia: a challenge for us all, Report of the Runnymede Trust: Commission on Britihs Muslims and Islamophobia. London: The Runnymede Trust.

Wallerstein, Immanuel 2004, World-Systems analysis: An Introduction. Durham: Durke University Press.