عمرو عبد الرحمن
قدّم عمر الشافعي في دراسته القيمة المنشورة في هذا العدد من مرايا تشريحًا لمفهوم “الإسلاموفوبيا” تضمن استعراضًا للعناصر المشكلة للمفهوم، والمستدعاة من رؤى قديمة تشكلت خلال الاحتكاك الطويل بين المسلمين والمجتمعات التي ستعرف لاحقًا بالغربية، أو إبان استعمار مراكز رأسمالية غربية للعالم الإسلامي، وكذلك التحولات المختلفة في بنية المفهوم الداخلية، وبالطبع الوظائف المختلفة التي لعبها هذا المفهوم في دعم خطابات سياسية مختلفة، أو متناقضة، بالترابط مع تحولات التحالفات السياسية والاجتماعية الحاكمة في تلك المراكز وأزماتها. يوضح عمر، بتفصيل ممتع، كيف تغذى المفهوم على الرؤى الاستشراقية التي رأت في الإسلام كدين، والمسلمين كجماعة بشرية، كتلة واحدة ذات جوهر واحد عابر للتاريخ يمكن اشتقاقه من نصوص الوحي والنصوص المؤسسة للتقاليد القانونية واللاهوتية الإسلامية. وهذا الفهم الاستشراقي شكّل الأساس لتبلور خطاب التخويف المرضي من الإسلام والمسلمين كممارسة أيديولوجية تخدم أهدافًا متنوعة ومواقع متبدلة ولكنها تتحرك علي نفس الأساس المفاهيمي، أي الرؤية الجامدة للإسلام والمسلمين. بهذا المعنى، تسهم دراسة عمر في وضع هذا الخطاب في سياقه الاجتماعي كأحد مكونات مشاريع سياسية بعينها – أغلبها على اليمين من المجال السياسي والفكري في الغرب – بدلًا من اعتباره معبرًا عن حقيقة نظرة “الغربيين” لعموم المسلمين، كما يذهب الكثير من الإسلاميين مثلًا. وكذلك، تسهم الدراسة بردّها لخطاب التخويف من الإسلام لسياقه الاجتماعي في تفكيك رؤية هذا الخطاب عن نفسه بوصفه معبرًا عن رسالة الغرب التي لوثها التهاون الليبرالي واليساري وما ارتبط به من رؤي تحتفي بالتنوع الثقافي، وكذلك بوصفه معبرًا عن حقيقة الإسلام والمسلمين التي يجب أن يتنبه لها هذا الغرب.
ولكن لا يمكن أن تكتمل الرؤية التي تطرحها هذه الدراسة القيمة – وكما أشار عمر في ثنايا عرضه التاريخي مرارًا – بدون تقديم تحليل تاريخي اجتماعي لما يفترض أن يكون نقيضها، أي خطاب الكراهية الجوهرية للغرب بوصفه خطاب يندرج بدوره في صراعات الهيمنة السياسية، ويمكن اكتشاف عناصره وأدواره وخريطة التحالفات السياسية والاجتماعية التي يسهم في بلورتها وتلك التي يسهم في تفكيكها وإجهاضها. هذا النقيض هو الموضوع المفترض للإسلاموفوبيا والذي يشكل بتجسده مبررًا لوجودها الدائم والعكس صحيح.
لايسعنا في هذا التعقيب المختصر إلا تقديم خطوط عريضة أو عناوين تلغرافية لهذا التحليل قد تسهم في المستقبل في فهم أفضل لهذا الخطاب، وبالتالي في فهم أفضل لموضوع دراسة عمر.
بدايةً، ما يمكن وصفه بخطاب كراهية الغرب، يتشكل بدوره من عدد من العناصر التي تكاد تكون المقلوب الصافي لعناصر الخطاب الاستشراقي في القرن التاسع عشر. وليس في الأمر غرابة، إذ أن خطاب كراهية الغرب المذكور قد ظهر في معرض الرّد على أطروحات تقدم الغرب كوحدة واحدة تعرف نفسها كموطن للعقل الحرّ والفردية في مقابل عالم المسلمين الخامل المحكومين بنصوص تدعو بحد ذاتها للسكينة والاستبداد والأبوية. وهذا الخطاب الاستشراقي ما كان ليشكل هاجسًا إلا لارتباطه بالتوسع الإمبريالي في عالم المسلمين منذ بداية القرن التاسع عشر – هذا التوسع الذي اتخذ أشكالًا متعددة منها الاستعمار المباشر ومنها إعادة هيكلة أساليب الحكم وعلاقات الإنتاج الاجتماعية لخدمة المراكز الإمبريالية.
الردّ على هذا الخطاب الاستشراقي، كما هو معلوم، أتى في المقام الأول من “أرباب القلم” في هذا الوقت في العالم العربي وهم نخبة علماء الدين. وانقسمت ردود أفعالهم، كما هو معلوم كذلك، إلى اتجاهات عدّة. أول ردود الأفعال (رفاعة الطهطاوي مثلًا ثم الأفغاني في مرحلة لاحقة) رأت أن هذا التحويل السريع للحياة الاجتماعية الذي يتم بقيادة الحكومات الغربية وعبر دعايتها يجب أن يكون الرد عليه ببناء نهضة ذاتية داخلية تعبئ جماهير أو عوام المسلمين الذين تركوا طويلًا بعيدًا عن دائرة الإنتاج المعرفي أو الفعل السياسي، وذلك عبر توسع التعليم المدني بالأساس وعبر توسيع مجال المشاركة العمومية في دائرة صنع القرار. ويقترن بالهدفين بالطبع إعادة إحياء مناهج معرفية للتعاطي مع تلك النصوص المؤسسة – والتي اعتبرها الاستشراق معبرة عن حقيقة المسلمين كما أشار عمر – تسمح للعوام باكتشاف معناها دونما توسط من مؤسسات الطرق الصوفية أو المؤسسات المعرفية المذهبية المعقدة. هذا التوجه المعروف بالسلفية الإصلاحية كان هو أيضًا يبحث عن حقيقة الإسلام وحقيقة “معدن” المسلمين إن جاز التعبير.
الملفت هنا أن هذا الخطاب قد بدأ يدرك المسلمين كأمة بالمعنى الأوروبي (السياسي) للكلمة في عصر الصعود القومي بلا منازع. على مدار تاريخ المسلمين بالطبع كان هناك شعور عميق بالانتماء لجماعة دينية وثقافية واحدة، ولكن لم يكن هناك شعور مماثل بالانتماء لجماعة “سياسية” واحدة يُفترض أن لها دورًا في حكم نفسها. كان الحكم مسألة متروكة للسلالات الشرعية والنخب العسكرية، واستدعاء العامة لصراعاتها كان يتوسل لنفسه بلغة الحقوق التاريخية، أو الإلهية، لهذه السلالات والنخب، أو قدرتها على حفظ النظام والتصدي للعدوان الخارجي أكثر من تقديم نفسها بوصفها صاحبة جدارة وأمانة في التعبير عن تلك الأمة. كذلك فاحترام الشريعة وتطبيقها كان مسألة منتهية لم تُطرح أصلًا على نطاق البحث حتى تكون موضوعًا للتنافس السياسي، ومن ثم فلم تكن بدورها موضوعًا للتعبئة إلا في حالات كان فساد الحكام فيها أو “زنذقتهم” متجاوزًا لحدود الخيال السياسي في وقتها. وحتى في هذه الحالات كان الاستدعاء ظرفي ومؤقت. الجديد مع السلفية الإصلاحية هي تحويل كل مواد التراث الفكري للمسلمين، عبر التعليم ووسائل الاتصال الجماهيري الحديثة خصوصًا في الصحافة، إلى ما يشبه “المانيفستو الأيديولوجي” الذي يقدم حقيقة الإسلام والمسلمين كبديل لصورة الغرب عنهم و كمسوغ لحكم المسلمين لأنفسهم كأمة مكتملة التكوين. من وجهة نظر السلفية الإصلاحية، فالقرآن يدعو للعلم والتعقل، الإسلام دين الحرية الحقة من حيث أنه ينفي أي سلطة للعباد على بعضهم البعض حتى في التشريع، الأخلاق الإسلامية أرفع من أخلاق الغرب في المعاملات لأن تأسيسها العقائدي أقوى وأمتن، وهكذا. وفي المقابل، فالحرية في الغرب هي تعبير عن فردانية منعزلة، والديمقراطية الليبرالية هي تحكيم للأهواء في مواجهة القانون والفضيلة. وإذا ذُكرت المسيحية كأساس لهذه القيم يجري النقد للمسيحية بوصفها هي نفسها ديانة خمول ودعّة، وإذا رُدّت هذه الملامح للقطيعة مع المسيحية، جرى نقد هذه القطيعة بوصفها تخليًا عن الدين وانحطاطًا لمهاوي الأهواء. كتابات الأفغاني و بدرجة أقل محمد عبده على صفحات مجلات كالعروة الوثقى ثم أعمال رشيد رضا مثلًا تعد نموذجًا شارحًا لهذا الميل.
بالتوازي، وكما هو معلوم كذلك، كان يتشكل اتجاه آخر يمكن تسميته بالاتجاه التقليدي، أو المحافظ، كرد فعل على هذه التحولات العاصفة. هذا الاتجاه تقاطع مع السلفية الإصلاحية كذلك في عملية إعادة بناء الإسلام كهوية متميزة لصيقة بالمسلمين ومتمايزة عن الغرب الذي تم إدراكه كذلك كوحدة واحدة لا انقسام أو تمايز بداخلها. ولكنه اختلف بشكل حاد عن السلفية الإصلاحية في رؤيته أن مواجهة هذا النفوذ الغربي المتزايد وإعادة بناء ذات المسلمين الجماعية في مواجهة الغرب لن يكون إلا بالإبقاء على القائم من ترتيبات مؤسسية وقانونية كما هي دون تغيير، وأن البنى الاجتماعية والمؤسسات المعرفية التي انتقدتها السلفية الإصلاحية هي بحد ذاتها طريق مواجهة النفوذ الغربي. بل إن هذا الاتجاه التقليدي طور من هجومه على السلفية الإصلاحية ليتهمها هي ذاتها بالتغريب في رؤيتها للعلاقة مع نصوص الوحي ونقدها للاستبداد في السياسة والثقافة. فما تم توصيفه كاستبداد في أدبيات السلفية الإصلاحية أضحى في أدبيات التقليديين بوصفه الملجأ الأخير للمسلمين في مواجهة النفوذ الغربي سواء كان هذا الاستبداد متجسدًا في مؤسسات سياسية كالسلطنة والملكيات المحلية أو مؤسسات اجتماعية كالطرق الصوفية والعائلات الممتدة أو تقاليد معرفية كالتعليم الديني التقليدي والمذاهب المعتمدة. آراء عدد من العلماء الأزاهرة المناهضين للسلفيين الإصلاحيين داخل مؤسستهم تعتبر مثال واضح على هذا الاتجاه. كذلك في محيط العالم العثماني ظهرت آراء قوية معبّرة عن هذا الاتجاه ككتابات العالم الصوفي والفقيه يوسف النبهاني ومحاججاته الطويلة ضد السلفية الإصلاحية.
باختصار تحول الغرب لدى جناحي التفكير الإسلامي المتنافسين (والمتناقضين في الكثير من المحطات السياسية) في هذا الوقت المبكر إلى “الآخر” بامتياز الذي يجب على هوية المسلمين أن تُبنى في مواجهته. بالطبع كانت هذه الاتجاهات الإسلامية واعية لتمايز الإسلام والمسلمين عن غيرهم من مجتمعات الشرق أو الجنوب غير المسلمة، ولكن لم تحتل هذه المجتمعات في أي محطة خلال هذا الوقت المبكر مكانة “الآخر” أخذًا في الاعتبار أن هذه المجتمعات نفسها كانت ضحية الاستعمار بدورها. بل إن هذه المجتمعات في عدد من الحالات ارتقت إلى مرتبة الحليف في رؤية التيارات الإسلامية.
ما يعنينا هنا أن هذا الانشغال بالغرب أدّى إلى إهدار معرفة هذه التيارات بتعقيد الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي في الغرب. ومع التوسع في أدوات الاتصال الجماهيري (الصحافة بالأساس) ودخول جمهور المتعلمين تعليمًا حديثًا، سواء كان دينيًا أو مدنيًا، إلى المجال العام، تشحب هذه المعرفة بالغرب أكثر فأكثر لمصلحة “المانيفستو” سواء كان مصاغًا في شكل مقال صحفي أو كتيب أو خطبة دعائية تشترك جميعها في تأكيد هذا الانفصال الجوهري بين المسلمين والغرب، وعُلوّ ثقافة المسلمين على ثقافة الغربيين ونمط حياتهم. والأخطر أن هذه الديناميكية بحد ذاتها قد ساهمت في تمييع الفروق بين التيارين نفسهم بمجرد خروج أدبياتهم لمجال الاتصال الجماهيري المتوسع باستمرار. بالإضافة لذلك فظهور تيارات فكرية أخرى على الساحة في عالم المسلمين، ليبرالية أو وطنية تحديثية أو حتى يسارية في مرحلة لاحقة، تزاحم التيارين الإسلاميين مكانتهم المحورية في المجال العام، قد عجّل بتمييع هذه الفروق والإعلاء من شأن القواسم المشتركة بين التيارين على حساب أوجه التباين.
مع بداية القرن العشرين، وتحديدًا مع تبلور التيارات الأخرى في مشاريع سياسية محددة عنوانها الاستقلال في حدود الدولة التي خلقتها التقسيمات الاستعمارية نفسها وفرض حكم دستوري وإصلاحات اجتماعية أتت كلها على النمط الغربي (مصر مثلًا منذ نهاية العقد الأول في القرن العشرين وإيران بعد ثورة ١٩٠٦ والمشرق العربي بعد وصول رجالات الاتحاد والترقي للسلطة في تركيا) تحولت مواجهة التغريب هنا إلى معركة محلية بالأساس أكثر من كونها معركة ثقافية وسياسية مع المستعمر. كان هناك ما يشبه الإقرار الضمني لدى التيارين الإسلاميين الرئيسيين أن المعركة القديمة التي شكلّت علّة وجودهم الأولى قد خُسرت تمامًا، وأن الدولة القومية قد وجدت لتبقى وأن مجتمعات المسلمين أضحت على طريق الانخراط في العلاقات الاجتماعية الرأسمالية إلى الأبد وأن هذا القدر لا فكاك منه. ومن ثم فخط الدفاع الثاني الذي تشكل بصورة لا واعية كان في التشبث بسهم، أومجال، داخل هذه الدولة وهذه العلاقات يحفظ لدعاة الأصالة سواء كانوا سلفيين إصلاحيين أو تقليديين أقحاح مكانة ما في هذا العالم المتغير. وانتقلت خطوط المعركة الثقافية بالتالي للداخل لتصبح في مواجهة دعاة التغريب وموضوعها هو ملكية الدول الوليدة ومحتوى رسالتها التعليمية والثقافية، وتم ترحيل حلم الخلافة إلى زاوية بعيدة في الخيال السياسي نسجت حولها الأساطير والأوهام كهدف نهائي لتحقيق الذات المسلمية والمتحررة كليًا من النفوذ الغربي.
وبالفعل، وبحكم قصور الطبقات التي رفعت شعارات الاستقلال عن مواجهة معاقل الاستبداد للنهاية، وهو قصور يجد تفسيره في اعتبارات اجتماعية أوسع بكثير من مجال مداخلتنا، تجمعت التيارات الإسلامية مرة أخرى حول أقطاب الاستبداد نفسه في الدول الناشئة لتكسب نفسًا جديدًا، ولتقايض تراجع نفوذها السياسي لدى الجماهير المتعلمة تعليمًا مدنيًا حديثًا، أو لدى عموم الطبقات الشعبية، بنفوذ متعاظم داخل مؤسسات الدولة ضمنته لها الأقطاب الاستبدادية إياها. على سبيل المثال، فوضع التعليم الأزهري تحت إشراف المؤسسة الملكية في مصر بعيدًا عن تأثير القوى السياسية الأخرى في البرلمانات والمجال السياسي عمومًا سمح للعديد من المثقفين الأزاهرة بإعادة إختراع دورهم مرة أخرى داخل الحيز السياسي الوليد كحماة للهوية في مواجهة التغريب المتعاظم. بل لقد سمح ربط المجال الديني كله بالملكية بدخول رجال الدين المسيحيين على خط الدعاية المواجهة للتغريب بعد أن كان نفوذهم في تآكل مستمر لمصلحة الأعيان الأقباط من ملاك أراضي أو مهنيين. وفي المقابل، استمر تأثير السلفية الإصلاحية، وبدرجة أقل التأثير التقليدي، في مجالات القضاء والفكر القانوني وهو المجال الحيوي الذي هندس البناء القانوني للعلاقات الاجتماعية بالكامل.
وبالتالي، تشكل مع نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية، ما يمكن وصفه بيمين ديني يشكل مقاومة التغريب وانتزاع موطئ قدم متعاظم داخل الدولة الجديدة أحد هواجسه الرئيسية. وهو وإن كان يفتقر للتمثيل الحزبي أو السياسي أسوة بباقي التيارات الفكرية إلا أنه استعاض عن ذلك بحضور قوي داخل مؤسسات الدولة بل واستطاع اختراق باقي هذه الأحزاب نفسها على مستويات عدّة. ثم مع نهاية العشرينيات بدأت أولى التنظيمات السياسية المعبرة عن اليمين الديني في الظهور ممثلةً في جماعة الإخوان المسلمين بطبيعة الحال.
ومع إعادة اختراع دوره على النحو السابق، تشعبت اهتمامات اليمين الديني بالطبع ولكن ظل لهدف “مواجهة التغريب” مكانة مركزية في خطابه وعبرت عن نفسها في معارك شتى منها عمل الإرساليات التبشيرية مثلًا، ثم مواجهة ظواهر كالدعارة أو تعاطي الخمور والمخدرات أو شيوع أنماط من العلاقات بين الجنسين تخالف الأنماط التقليدية المتعارف عليها بوصفها جميعًا مؤشرات على تعاظم النفوذ الغربي في المجتمع. ومواجهة هذه الظواهر، وإن كانت موكولة للدعاة بالطبع، إلا أنها لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا بتدخل أجهزة الدولة القمعية للضبط والردع. ولم يعدم ذلك العصر معاركًا شبيهة بما نراه حاليًا من معارك حول الرسوم الكاريكاتيرية وإن لم تحذ شهرة المعارك الثقافية الكبرى التي انخرط فيها كبار كتاب العصر وأدباءه.
ما يعنينا هنا أن اليمين الديني استدعى مطارحاته حول صورة الإسلام والمسلمين كمعركة داخلية بالأساس هدفها محاصرة نمو أشكال من العلاقات الاجتماعية والأفكار والهويات الذاتية تدرك نفسها كجزء من عالم أوسع وتتعامل مع تراثها وذاكرتها من منظور هذا الإدراك الجديد سواء بالرفض التام أو التحويل والتعديل بما يقتضيه إدراكها لموقعها الجديد. نحن هنا لسنا معنيين بتقييم هذه الأفكار الجديدة من الناحية الأخلاقية أو السياسية، فمن البديهي أن أي تصورات جديدة للهوية تولد من داخلها أدوات نقدها الذاتي. الأفكار الاشتراكية التي ذاعت خلال هذه الفترة يمكن اعتبارها بحد ذاتها نقدًا اجتماعيًا حادًا لأشكال العنف والتفاوت الاجتماعي والاغتراب التي ولدت مع العلاقات الاجتماعية الجديدة، ولكنه نقد استند لمنطلقات مختلفة جذريًا لمنطلقات اليمين الديني وتعامل بسلاسة مع واقع المسلمين الجديد باعتبارهم جزءًا من جماعات وهويات جديدة على الصعيد العالمي مع آخرين غربيين وشرقيين وغيرهم. الخط الفاصل إذن بين نقد اليمين الديني ونقد الآخرين كان في محاولة حبس المسلمين في أسر الثنائية القديمة المتجددة في مواجهة الغرب، وأحد الأدوات الفاعلة في هذه المعركة كان المسارعة إلى التقاط أي إشارة تصدر عن التيارات الثقافية في الغرب تحقر من تراث المسلمين أو عقيدتهم كدليل على وحدة النظرة الغربية التي لا تتغير للمسلمين.
وعلى ذكر التيارات الاشتراكية فالمرحلة التالية لإعادة تفعيل هذا الخطاب، وللمفارقة، كانت تحديدًا مع ما يراه هذا الخطاب نفسه عصرًا ذهبيًا لهيمنة العلمانية والإلحاد على عالم المسلمين، أي خلال فترة الأنظمة الوطنية ذات الدعاية اليسارية نفسها والتي ظهرت عقب الحرب العالمية الثانية وهزيمة حرب فلسطين. المفارقة هنا مصدرها أن نزوع هذه النخب الجديدة لتركيز السلطة الحصري حول أنوية أمنية وعسكرية صلبة والقضاء على أي تنظيم جماهيري مستقل قد حكم عليها بابتلاع هذا التيار اليميني نفسه كعنصر ضابط يدعم من شرعية النظم الجديدة في مواجهاتها السياسية، ويوازن من نفوذ العناصر اليسارية المستقلة التي سعت إلى التسريع من وتيرة التحولات الاجتماعية التي أطلقتها سياسات هذه النخب. معركة هذه النخب الحاكمة مثلًا مع التيارات الإسلامية لم تتجاوز الحيز السياسي بل اقترنت في الكثير من الأحيان بالمزايدة على رؤى هذه التيارات، وحالة النظام الناصري في مصر مثلًا كاشفة حيث كان النظام الناصري تحديدًا – الملعون من عموم التيارات الإسلامية – هو من حوّل الأزهر لمؤسسة متعاظمة النفوذ وسمح بتعزيز دورها في صياغة الرسائل التعليمية والإعلامية والثقافية الجديدة. بل إن الشغل الشاغل للمطارحات مع الغرب تحول خلال الستينيات لمواجهة نفوذ الأفكار الاشتراكية في المجال الأدبي والفني والسياسي باعتبار أن الاشتراكية هي الطبعة الأخيرة من طبعات التغريب التي يتعين مواجهتها.
بالطبع كان تعاون التيار اليميني مع الأنظمة الجديدة موضوعًا جداليًا انتهى لانفصام هذا التيار نفسه والتباعد بين شقه المنظم حزبيًا كالإخوان المسلمين والتيارات الأكثر جذرية، عن القطاع المندمج في مؤسسات الدولة، على اعتبار أن الأخير قد تورط في خيانة مبادئه بقبوله التعاون مع هذه الأنظمة على جثث العناصر المنظمة حزبيًا. كما أن هذه التجربة المريرة قد أدت لعودة مسألة مواجهة الاستبداد مرة أخرى لتحتل حيزًا معتبرًا من أدبيات التيارات الإسلامية الحركية سواء كانت هذه المواجهة متخذة أشكالًا مؤسسية متعارف عليها في الديمقراطيات الحديثة من برلمانات وأحزاب أو متخذة أشكالًا أكثر جذرية من منظمات مسلحة. ولكن هذا ليس موضوعنا على أي حال، لأن هذا الانفصام لم ينعكس على رؤية الطرفين للغرب أو للمسلمين، بل بالعكس ترددت أصداء الاتهامات المتبادلة بالتغريب التي نشأت في نهاية القرن التاسع عشر في جدالات الطرفين: فالتيارات التقليدية المتعاونة مع النظم الجديدة ترى في الحركات الإسلامية كيانات تفرق جماعة المسلمين عبر محاكاتها لأنماط التنظيم الجماهيري الغربية من أحزاب ونقابات وجمعيات، والتيارات الإسلامية الحركية ترى في هذه الأصوات تغريبًا عبر تكيفها مع موقعها في الدولة العلمانية الحديثة التي حصرت الدين في أمور الفتوى في “الحيض والنفاس” على قول سيد قطب.
وهنا تنشأ مرحلة جديدة من حياة الخطاب المناهض للغرب والتغريب تقترن بدورها بتحولات أنظمة ما بعد الحرب العالمية الثانية واندفاعها يمينًا تحت تأثير أزماتها الذاتية وتعاظم دور رؤوس الأموال الخليجية وأنظمته بالتبعية. وكان من الطبيعي أن التحول يمينًا يقترن بتزايد نفوذ اليمين ككل سواء في شقه الديني أو الليبرالي، وسواء كان مندمجًا في مؤسسات الدولة أو في المجال العام. و بالتدريج يبرز دور جديد لهذا اليمين الديني ورؤاه بشأن الغرب يضاف إلى أدواره المتراكمة وهو اعتباره ورقة لابتزاز حلفاء النخب الحاكمة الجدد في العواصم الغربية نفسها. وكما لعب هذا التيار دورًا محوريًا في موازنة النفوذ اليساري داخل أروقة الدولة والمجتمع عقب استيلاء النخب العسكرية والأمنية على جهاز الدولة في الخمسينيات، لعب نفس التيار دورًا محوريًا في موازنة نفوذ التيارات الليبرالية داخل أروقة الدولة مع تحولها يمينًا وكذلك في موازنة دعاوى النخب الغربية التي كانت تضغط على هذه الأنظمة بين الحين والآخر باتجاه إقرار قدر من الحريات السياسية بما يحفظ هيمنتها بالأساس، خصوصًا بعد انهيار عدوهم المشترك متمثلًا في الاتحاد السوفيتي.
لا يُفهم من هذا الكلام على الإطلاق أن جميع منتسبي التيار اليميني الديني كانوا يتحركون على غير هدى مُجيشون في معارك لا دراية لهم بها أو لا سيطرة لهم عليها. من وجهة نظري، العكس تمامًا هو الصحيح. فالابتزاز كان متبادلًا والتوظيف كان من الطرفين في الحقيقة خلال هذه الفترة الطويلة. لعبة الابتزاز والموازنات انعكست في نفوذ إضافي لليمين الديني في النهاية، كان واعيًا به ويعمل على تعظيمه بذكاء ومهارة. حتى تياراته الأكثر جذريًا في قطيعتها مع الدول القائمة، بما في ذلك الجماعات المسلحة، لم تفوت فرصتها في الاستفادة من حضور العناصر التقليدية داخل جسم الدولة، وعملت على ابتزازها بدورها في معارك تكفير لعدد من المثقفين أو على الأقل بابتزازها لمواجهة ما تراه تغريبًا في سياسات هذه النخب الحاكمة خصوصًا سياساتها تجاه المرأة أو سياساتها السكانية مثلًا (معارك تنظيم الأسرة والختان وتعديل قوانين الأحوال الشخصية أمثلة دالة هنا).
خلال هذه المرحلة الطويلة ارتسمت الملامح الأساسية للمعارك الحالية التي نراها مع صعود اليمين القومي الشعبوي في الغرب وتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا التي أسهب عمر الشافعي في رصد ملامحها. فهي معارك لا يمكن باختصار تحديد الخط الفاصل فيها بين من هم في مواقع السلطة ومن هم في مواقع المعارضة، فبمجرد ما ينطلق النفير نجد الجميع مندفعًا لتسجيل نقاطه الخاصة دونما تبصر للمصدر الأساسي لهذه المعارك، فالجميع يمكنه الاستفادة في الحقيقة. وبمجرد انطلاق هذه المعارك نرى الظاهرة المثيرة وهي الوعي العميق لليمين الديني بمواقعه وقدرته الفائقة على تجاوز خلافاته الجذرية بشكل مؤقت لحين تحقيق مكاسبه المضمونة. الجماعات الدينية المختلفة تتحرك على أرضية محروثة سلفًا عبر قرن تقريبًا، ومن السذاجة، من وجهة نظرها، الاستنكاف عن المشاركة بدعوى أن الأنظمة الحاكمة قد تستفيد، فاستفادة الأنظمة الحاكمة هي حُكمًا قصيرة الأجل بينما أن الأثر الثقافي لهذه المعارك يمتد لما هو أبعد ويحصده اليمين الديني في جميع مناحي الحياة. الجانب الثاني المهم من الملامح الأساسية لهذه المعارك هو تطرقها لممارسات تحدث بالأساس داخل حدود العالم الغربي نفسه أخذًا في الاعتبار الزيادة السكانية ذات الدلالة للسكان المسلمين سواء المهاجرين وأبناءهم المولودين في الغرب أو المقيمين. منع غطاء الرأس في المدارس الحكومية ثم منع النقاب بشكل عام في عدد من الدول الأوروبية، ثم تمثيل المسلمين في صورة سطحية ومبتذلة على خلفية الهجمات الإرهابية أو تصريحات بعض المسئولين الدينيين كبابا الفاتيكان أو أخيرًا الرسوم الكاريكاتيرية كلها تقريبًا كانت ممارسات تجري داخل حدود العالم الغربي. من زاوية أولى، كانت هذه المعارك فرصة لابتزاز الحلفاء الغربيين وشراء صمتهم عن واقع قمع حلفائهم المسلمين لشعوبهم، ومن زاوية ثانية كانت محاولة لتعزيز نفوذ بعض الحكومات المسلمة في صفوف هؤلاء السكان المسلمين في الغرب. ولكن كذلك، بدت هذه المعارك لكثير من المثقفين اليمينيين الإسلاميين المستقلين عن النخب الحاكمة كسلاح خطابي ماضٍ في مواجهة ما يفترض أنه الخصم المحلي من المتغربين. ببساطة، من وجهة نظر دعاة اليمين الديني، إذا كان الغرب يعامل مسلميه بهذه الطريقة، فنحن بصدد نموذج مثالي على نفاق دعاوى هذا الغرب وأتباعه المحليين. والمحصلّة أن ما يمكن وصفه وتحليله وفهمه كمشروع عنصري أو قومي شعبوي – وهو ما فعله عمر الشافعي – يمكن مواجهته من أرضية عالمية وديمقراطية مع آخرين في الغرب، يتحول لدى المثقف اليمين الإسلامي إلى دليل على الرؤية الأصلية التي لا تتغير ومن ثم استحالة التواصل الحر مع آخرين في هذا المجتمع الغربي. كل ما يمكن انجازه هو التعايش الحذر والبراجماتي مع هذا الغرب تحت وصاية اليمين الديني.
وأخيرًا، فثورات العالم العربي، والانفجار غير المسبوق في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي التي فتحت المجال في بضع سنوات فقط للتعليق على كل الأحداث العامة سواء داخل أو خارج البلد، كشفت كذلك عن مدى التنوع الهائل بين سكان العالم الإسلامي سواء في رؤيتهم لذواتهم أو هوياتهم وموقفهم من العلاقات الاجتماعية السائدة. وبالطبع لم تتوفر لليمين الديني بشقيه – المندمج في الدولة أو الإسلامي الحركي – أي أدوات لفهم أو استيعاب هذا التنوع على اعتبار أنه كله تغريب في تغريب أو تفسخ أخلاقي وغير ذلك من توصيفات. وعادت بالتالي معارك صور المسلمين في الغرب أو النظرة الغربية للإسلام لتشتغل داخليًا. فبعد عام واحد من اندلاع الثورات العربية تفجرت قضية فيلم لمخرج أميركي مغمور تمامًا ظهر فجأة على موقع اليوتيوب في نهاية ٢٠١٢ لتتحول لمناسبة للتظاهر والتحريض انتهت بهجوم على منشآت دبلوماسية غربية، بل وقتل السفير الأميركي في بني غازي. وقتها كان من الواضح للجميع أن تلاعبًا أمنيًا سافرًا من عناصر في الأنظمة الساقطة أو المترنحة يقف خلف تفجير تلك القضية بهدف المزايدة على الإسلاميين سواء كانوا في مواقع السلطة أو يتأهبون لها، ومع ذلك فالمنظمات الإسلامية نفسها قد قفزت بدورها إلى قطار التحريض على التظاهر نفسه ومارسته في الكثير من الأحيان. مرة أخرى الأمر لا يتعلق بسذاجة أو توظيف بالمعنى المباشر للكلمة بقدر ما يتعلق بإدراك عميق بأن هذه المعارك مهما كانت خسائرها على المدى المنظور إلا أن مخرجاتها ستصب في النهاية لمصلحة اليمين الديني ككل، ومنه المنظمات الإسلامية الحركية التي لا يمكنها أن تنفصل عن مسار التعبئة ذاك. وفي نفس السياق، فهذه المواقف تم توظيفها في سبيل الهجوم على المواقف الجديدة من الهوية والعلاقات الاجتماعية التي كشفت عنها مواقع التواصل الاجتماعي بوصفها اختراقًا بدورها لمجتمعات المسلمين. وتداخل مع التوظيف الرسمي (التركي في حالة معركة الرسوم الأخيرة والمصري والسعودي في حالة الرسوم الأولى في ٢٠٠٦) دخول الجماعات الجهادية على الخط أملًا في المزيد من التعبئة بين صفوف المهاجرين. فشهدنا عدد من أفعال العنف المسلح والمخطط لها بدقة كحادث إطلاق النار على مجلة شارلي أيبدو في يناير ٢٠١٥ ثم ذبح المدرس صمويل باتي وإطلاق النار في العاصمة فيينا. لا يمكن اعتبار هذه الأفعال بمثابة “ردود فعل” أخذًا في الاعتبار إعلان أطراف بعينها مسئوليتها عن هذه الأحداث حتى لو تمت بطريقة الذئاب المنفردة أي بدون قرار مركزي. وهكذا تندفع أطراف مختلفة للتطوع لإثبات صورة المسلمين التي يرسمها الخطاب الإسلاموفوبي نفسه، كل لمصالحه ولخدمة هيمنتها الداخلية بالأساس.
من شأن هذا الاستعراض السريع، والمخل ربما، لتاريخ ودور خطاب معاداة الغرب الإطلاقي يمكن استخلاص عدّة نتائج سريعة قد تستكمل الصورة التي رسمها عمر الشافعي بعناية للإسلاموفوبيا كأيديولوجية. من الواضح أن هذا الخطاب اعتمد في آليات بناءه على نفس الكيفية التي اعتمد عليها الاستشراق في تصوير عالم المسلمين ومعتقدهم مع قلبها لمصلحة المسلمين. العلاقة مع آليات الاستشراق وتبنيه معكوسًا كان ردّ فعل خاص جدًا في لحظة تشكل حيز جغرافي ومؤسساتي جديد، هو حيز الدولة القومية، فتح مجال المنافسة العلني على شغله بتصورات عن الأمة بالمعنى السياسي تترجم في رسائل تعليمية وأخلاقية. هذا الحيز بسوقه ومؤسساته القمعية والسياسية والإدارية كان بحد ذاته لحظة في استلاب جمهور المسلمين، أي مرحلة تساهم في خروج الشروط المحددة لحياة الناس بشكل متنامي عن سلطتهم وانتصابها أمامهم كعائق بينهم وبين تحققهم الذاتي. ولكن بدلًا من ميلاد خطابات من قلب لحظة الاستلاب تلك تستعيد تحكم الناس في في هذا الحيز بالمشاركة مع آخرين من خارجه، تشكل الخطاب المناهض للغرب في ارتباط عميق بآليات الضبط في هذا الحيز المؤسسي، فتحول لخطاب ضبط وقمع يستهدف السيطرة على عموم المسلمين في هذا الحيز بالتنافس مع غيره من الخطابات، مع إنتاج نشط لحلم الخلافة الذي كان يبتعد أكثر فأكثر عقدًا بعد عقد. فيصبح التحقق الذاتي والسيطرة على شروط الحياة حلم مؤجل دائمًا بعيد المنال لا يطّلع عليه الإنسان المسلم المعاصر إلا عبر المثقف الإسلامي. في كل المحطات الفارقة كانت مواجهة التغريب محاولة للسيطرة على جمهور يتفلت من أسر علاقات اجتماعية متفسخة – جديدة أو قديمة – ولكن يجري جرّه جرًّا لمعارك التغريب والعلمنة تلك، وعبر هذه العملية يعاد انتاج شبكة مترامية الأطراف من السلطات والمواقع الاجتماعية المتميزة على حساب التفكير في واقع بديل. ويعود التصوير الإسلامي للغرب دائمًا لحفظ تماسك اليمين الإسلامي في العالم العربي والإسلامي كتيار فكري وسياسي، ولحفظ المواقع الاجتماعية المتشكلة من رحمه وبفضله، ولفتح المجال لتحقيق مكاسب فرعية لمكونات هذا التيار العريض على تناقض مصالحها الاستراتيجية.
هنا يجب أن نفتح قوسًا لجملة اعتراضية مهمة، وهي أن التيار الإسلامي شهد على مرّ تاريخه الطويل رؤى تجاوزت هذا التمثيل الضيق الماهوي للغرب ولم تقدم معركتها الأساسية بوصفها معركة مع اتجاهات تغريبية محلية ونظم عميلة لهذا الغرب بالمعنى البسيط والاختزالي لمفهوم العمالة. بل إن نفس التيار شهد محاولات فكرية عميقة للخروج من فلك اليمين عمومًا والتقارب مع اليسار سواء كان قوميًا أو ليبراليًا أو حتى ماركسيًا. ونجحت بعض هذه المحاولات في التعبير عن نفسها تنظيميًا بدرجات متفاوتة في حقبة الثورات العربية. ولكن هذه الرؤى، على جديتها وأهميتها، ليست موضوعنا حيث لم تحذ نفوذًا يذكر في أوساط التيار الإسلامي ناهيك عن عموم المواطنين.
ومرة أخرى، لا يحمل هذا التقييم لليمين الديني ودوره أي ود يذكر لواقع العلاقات الرأسمالية الحديثة الذي نشأ وتعقد منذ عصر نشأة الدولة الحديثة في كنف الاستعمار. ولكنه يرى أن هذه العملية بحد ذاتها قد وفرت الشروط اللازمة لميلاد تيار نقدي من داخلها يؤسس لمشاريع سياسية وفكرية وأخلاقية قادرة على تجاوزها بشرط التفكير من على أرضية الواقع الجديد. وهذه الأرضية تؤشر أن المسلمين المحدثين أنفسهم منقسمين طبقيًا واجتماعيًا بعمق، وأن هوياتهم السياسية والثقافية بالتالي تتفلت في تشكلها عبر الحدود الجغرافية المتخيلة سواء كانت دينية أو قومية وأنها يمكن أن تتلاقى مع غيرها من البشر شرقًا وغربًا بانفتاح. ولحظة الثورات العربية كانت كشفًا مدويًا لهذه الإمكانية شهدته الشوارع ثم ساحات السوشيال ميديا. الثورات العربية شئنا أم أبينا، كانت جزءًا من ديناميكية عالمية عابرة للحدود تسببت فيها أزمة عميقة لنمط الإنتاج الرأسمالي الذي خلق هذه الحدود ابتداءًا. والاستجابة المضادة في الغرب وعالم المسلمين – أو الثورة المضادة إن شئت- تنوعت ما بين الاحتواء وما بين الصعود اليميني الهوياتي مرة أخرى في تجليه الإسلاموفوبي أو ذاك المعادي للغرب: ظاهرة واحدة بوجهين مختلفين. ويبقى التاريخ مفتوحًا على استجابة بديلة لتلك الأزمة.. استجابة ديمقراطية بعمق، تُعرّف الإنسان بما يميزه فعلًا في عالمنا – أي قوة عمله الذهني والبدني الصانعة للحياة والمسلوبة منه بشكل دائم… ربما عند إدراك هذه الحقيقة سنتعرف في العالم القائم بعلاقاته ومؤسساته على أثرنا الحقيقي وليس الأثر الذي أنتجه أسلافنا ويريد لنا الكثيرون في عالمنا تحميلنا بعبئه إلى الأبد.